&عزت سعد

عبر تاريخها الطويل ظلت العلاقات الروسية/ التركية دائما خليطا من الحروب (نحو 12 حرباً على مدى خمسة قرون) والهدنة والصراع على مناطق نفوذ، بحكم أن البلدين يتشاطران جواراً جغرافيا وثقافيا كبيرا من أوروبا إلى آسيا الوسطى والقوقاز، وحتى الشرق الأوسط. ويشير التاريخ السياسى للبلدين وحتى الآن إلى طموح كل منهما لأن يصبح قوة رائدة فى المنطقة الأوروآسيوية. وكما أن لدى بوتين مشروعا بإنشاء ما يسمى «العالم الروسى» تكون موسكو مركزه ، لدى أردوغان أيضا مشروع بتحويل تركيا لمركز سياسى - اقتصادى لما يسمى «العالم التركى».

ورغم منحنيات الصعود والهبوط فى العلاقات المشتركة، وآخرها حادث إسقاط الطائرة الروسية فى نوفمبر الماضى وتداعياته ثم الاعتذار عنه، فإنه يلاحظ وجود خط عام فى السياسة الخارجية للبلدين، كل تجاه الآخر، يتمثل فى الرغبة المشتركة فى تفادى المواجهة والصراع وتأسيس علاقات تقوم على المصالح المتبادلة والحرص على إدارة خلافاتهما بأكبر قدر من حسن النوايا والاحترام المتبادل، من خلال حوار منتظم ومفتوح بين القيادة السياسية فى كل منهما. وفى هذا السياق، جاء إنشاء المجلس الأعلى للتعاون الروسى - التركى فى مايو 2010 ليمثل تطورا مؤسسياً كبيراً، وقاطرة للمزيد من التعاون.

وخلال السنوات القليلة الماضية عانت روسيا مثل تركيا، من فتور فى علاقاتها بأوروبا، وإن اختلفت الأسباب. ومن المهم الإشارة فى هذا إلى أن تركيا وإن لم تعترف بضم روسيا شبه جزيرة القرم، إلا أنها لم تنضم إلى قائمة الدول التى فرضت جزاءات على روسيا رغم كونها جزءا من التحالف الغربى.

ويمكن القول إن العامل الأهم فى دفع الرئيس التركى إلى الاعتذار عن حادث إسقاط الطائرة، وإسراع بوتين بالتجاوب معه، انتقادات دول الاتحاد الأوروبى والغرب لتوجهات أردوغان وأسلوب إدارته للازمات فى بلاده، حتى قبل الانقلاب الفاشل.

على أى حال قرأت زيارة أردوغان لروسيا فى الغرب ووسائل إعلامه، التى اهتمت بالزيارة بصورة لافتة، على أنها نوع من الابتزاز لحلفائه الغربيين.

وبالرغم من صحة مقولة إنه أينما فشل الأمريكيون وجد الروس، غير أن عودة العلاقات الطبيعية بين أنقرة وموسكو لن تبدد قلق الثانية من إمكانية أن تتحرك تركيا صوب جمهوريات شمال القوقاز الروسية ذات الأغلبية الإسلامية السنية.

ولا يجادل أحد فى الحضور السياسى الواضح لتركيا فى منطقتى آسيا الوسطى والقوقاز، حيث يوجد أيضا حضور ثقافى وعرقى تركى واضح. فالقيم التركية المشتركة واللغة التركية والدين الواحد هى كلها عناصر تسهم فى تبنى دول المنطقة سياسة مشتركة.

وقد يعتقد البعض أن الحملات الجارية لمكافحة الإرهاب، سواء فى إطار التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة أو غيره، توفر فرصة جيدة للتعاون الروسى - التركى لمواجهة تحدى الإرهاب، لكن السياسة التركية حيال الربيع العربى غيرت من نظرة روسيا إلى الدور التركى وتوجهات إستراتيجية أنقرة.

وأخذا فى الاعتبار ما تواجهه السياسات التركية من عقبات فى منطقة الشرق الأوسط، والتى لا يبدو أنها ستتخلى عن إستراتيجيتها فيها بسهولة بل هى ماضية بنشاط ملحوظ صوب الخليج العربى والشرق الافريقى، فقد تلعب كروتها لتسجيل نقاط فى مناطق آسيا الوسطى والقوقاز، حيث حضورها الواضح هناك.

وكما هو معروف يعلى أردوغان الاعتبارات الاقتصادية فى سياسته الخارجية على ما عداها من اعتبارات. ويشكل التعاون فى مجال الغاز الطبيعى واحدا من أهم محاور التقارب الروسى التركي. فحلم اردوغان كان ولا يزال دائماً ان تتحول بلاده الى مركز عالمى للطاقة . ومن المهم تأكيد أن خطط تركيا فى مجال الغاز الطبيعى تتناقض مع المصالح الروسية، من حيث إنها تستهدف إبعاد الغاز الروسى من سوق الغاز الأوروبى وإحلال الغاز الطبيعى من أذربيجان وتركمانستان محله. وقد حظى مثلث تركيا/ أذربيجان / تركمانستان بدعم واضح من كل من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية وجورجيا وأوكرانيا. وتسعى الولايات المتحدة إلى تشجيع قيام تحالف طاقة إقليمى يضم كلا من مصر واليونان وقبرص وإسرائيل وتركيا لتوفير احتياجات هذا الدول من الطاقة وتصدير الفائض إلى أوروبا، وذلك بما يقلل من اعتماد السوق الأوروبية على الغاز الروسى.

وبين أهم مكاسب أردوغان العديدة إحياء مشروع خط الغاز الطبيعى المعروف باسم «التيار التركى» لمد تركيا بالغاز، فضلا عن خط آخر لضخ الغاز الروسى لأوروبا عبر تركيا. وتسعى موسكو للحصول على ضمانات أوروبية قوية بشأنه قبل بناء الخط الأخير. ويظل الملف السورى عقبة رئيسية أمام تقارب سريع بين البلدين، كما أن عودة العلاقات الاقتصادية والتجارية الكاملة قد تستغرق وقتا.