سمير عطا الله 

 بين المغتربين الذين كانوا يعودون إلى القرية بين حين وآخر، ثم يسافرون من جديد، شقيقان يقيمان في الولايات المتحدة. و«على ما يبدو»، كما تقول أغنية زياد الرحباني، على ما يبدو، أنهما كانا يحبان الوجاهة بكل مظاهرها، ومن بينها أنهما يشحنان سيارتيهما «الأولدزموبيل» إلى لبنان قبل وصولهما، واحدة خضراء، واحدة زرقاء. وكانا ينشران خبر الوصول في صحف بيروت، متوجًا دائمًا بلقب الشيخ، علامة الغنى ودلالة الاعتبار وعنوان الوجاهة. وما دام لقب الشيخ قد ورد في الجرائد، فقد أصبح رسميًا وعليه طابع ميري. أي لا يعود ممكنًا لرفاق القرية السابقين أن ينادوا العائد المظفر باسمه الأول، كما كانوا يفعلون قبل الهجرة إلى بلاد المال والسعادة.
الشقيق الأكبر لم يكن يكتفي بالسيارة الفخمة، بل كان يرتدي، في عز الصيف، بذلة الحفلات الرسمية المقلمة. ولم يكن القرويون يعرفون عنها شيئًا سوى «هيبتها». وفقط عندما كبرنا، عرفنا أنها ترتدى في الحفلات الرسمية فقط، أو احتفالات تنصيب الرئيس.
كنت دون العاشرة من العمر. وقد علقت في ذاكرتي المنبهرة بالقليل جدًا من المشاهد، صورة «الشيخين» والسيارتين. وخصوصًا صورة الشيخ الأصغر، واقفًا إلى جانب سيارته الخضراء اللماعة في الساحة، متكئًا على سطحها بساعده من ناحية باب السائق، يتحدث طويلاً، وفي صوت جهوري على «هيديك (تلك) البلاد»، مثيرًا إعجاب السامعين المتحلقين حوله. أما الصغار فكان يعنيهم شيء واحد، هو السيارة اللماعة ومقدمتها الجميلة، التي سوف تلغى من الموديلات التالية بسبب كلفة المعادن.
العام 1974 ذهبت مع زوجتي إلى فلنت ميتشيغان، حيث كان جدي، وفيها ابن شقيقته وصديقي. وذات مرة سألته عن أحوال «الشيخ الأصغر» المقيم في مدينة لانسنغ القريبة، فقال لماذا لا تذهب إلى زيارته؟ عندما فتح لنا الباب لم يكن قد تغير شيء فيه: قامته وكتفاه العريضتان، والنظارات الطبية التي تزيد في هيبته. لكن البيت كان صغيرًا ومعتمًا. والرجل نفسه كان وحيدًا ومحزنًا. وقد فاجأته زيارتنا، لكنه أخفى بصوته الجهوري وطريقته في الكلام أي مشاعر وانزعاج من المفاجأة. فلا شك أنه سرّ لرؤيتنا، لكن لم يتقبل كثيرًا فكرة أن نلقاه خارج إطار الساحة وسيارة «الأولدز» الضخمة الخضراء، وهو واقف إلى جنبها في قرية ليس فيها سوى سيارة عمومية عتيقة، غالبًا ما تتدهور بصاحبها على الأكواع الصعبة. لم نبق طويلاً عند الرجل. بدا مرتبكًا كأنما خسر امتحانًا لمرتبة ما. وقال في شيء من الانكسار إنه تقاعد: لقد أغلق الدكان الذي يملكه.
إلى اللقاء..