محمد علي فرحات

ما يجري في لبنان هو تجفيف للانتماء الوطني بأيدي سياسيين يتحكمون بالسلطتين التشريعية والتنفيذية ويضغطون على السلطة القضائية. ولبنان منذ ولادته كدولة في عشرينات القرن الماضي هو الدولة العربية الوحيدة القائمة على الاعتراف بالطوائف، فيما الدول الأخرى لا تعترف سياسياً بطوائفها وتعتبر الشعب كلاًّ متجانساً، فمن يوالي الحاكم يُجزى ومن يعارضه يُحال على المعتقلات أو هوامش المجتمع.

تصرّ الكاتبة العربية الصديقة على إعجابها بشعب لبنان «وإبداعاته المستمرة من القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي والعشرين». وعلى رغم ملاحظتها الأخطاء والمآسي يبقى شعب لبنان في نظرها خلاّقاً، لذلك تدعوه إلى إبداع سياسي إنقاذي وأن لا يكتفي بمجالات الفكر والأدب والفن والعلم التي عُرف بها شرقاً وغرباً.

الكلام هنا على عبقرية شعب حرّ وليس على عبقرية أفراد معينين، مهما بلغوا من الأهمية، فالشعب اللبناني هو الذي حفظ وطنه من لعنة الجغرافيا الحاملة أزمات وحروباً، ويحفظه من زعماء الطوائف عندما يقودونها من الاعتراف الحضاري إلى تقاتل بدائي يحلم بالإبادة.

هناك 17 مشروع قانون للانتخابات النيابية في أدراج البرلمان، ولا تزال المشاريع تتواصل، ولا اتفاق. كل ما في الأمر أن زعماء الطوائف يخشون الحدّ الأدنى من الديموقراطية ويطلبون «القانون المعجزة» الذي يوفّق بين شكلية الاقتراع والنتائج المقررة سلفاً، وهم يخجلون من إعلان الحقيقة أمام الشعب اللبناني والمجتمع الدولي المفتوح العينين: إن الدولة اللبنانية في شكلها الذي آلت إليه هي وفاق بين ديكتاتوريات طائفية لا ترغب بإعلان لبنان اتحاد طوائف، بل بإعلانه في الواقع اتحاداً بين زعماء الطوائف بالذات، مع ذكر أسمائهم الثلاثية وأرقام سجلاتهم المدنية. حتى إذا مات واحد من أركان هذا الاتــحاد خلفه ابنه أو من تتفق عليه الطائفة إذا اتفقت أو من ينتصر في حرب داخل الطائفة.

أطول برلمانات لبنان عمراً انتُخب عام 1972 واستمر حتى 1992، لأن الحرب الأهلية (1975- 1991) شكّلت عائقاً للاقتراع، لكن البرلمان الحالي (انتُخب عام 2009) لا سبب موضوعياً لاستمراره (ولاية المجلس 4 سنوات)، مع ذلك سيمدد لنفسه في انتظار «معجزة» الجمع بين الانتخاب والتعيين، وهي معجزة طائفية بامتياز.

ما يحدث في لبنان اليوم هو حملة الزعماء لتجفيف الشعور الوطني، لكونه عابراً للطوائف وحيوياً للمشترك الشعبي اللبناني المتمسك بالحرية والمنخرط في الإبداع والانفتاح على البشر.

ويبدأ تجفيف الوطنية ببث مشاعر الخوف من الآخر الشريك وكراهيته، والحفر في مجهولات التاريخ بحثاً عمّا يفرّق بين الجماعات ويعطي كلاًّ منــها ميـــزات موهـــومة شكلاً ومعنى: سخر أحد الأصدقاء من غلاة الطـــائفيين إذ صوّرهم يبحثون عن أشكال خاصة للأنف والأذنين لدى هذه الطائفة أو تلك، كأنهم يقلّدون «علـــماء» النــازية في ثلاثيـــنات القرن الــماضي حيـــن كـــانوا يـــحدّدون الصــفات الجسدية والمزاجية الثابتة لـ «اليهودي».

كل طائفة في لبنان اليوم تلعب دورَي «النازي» و «اليهودي» للقضاء على الوطنية اللبنانية ولتأسيس أمجاد الاتحاديين الطائفيين في دولتهم الساعية لوراثة لبنان وإطفاء أمجاد شعبه.

وتقتضي عملية التجفيف هبوطاً في مستوى السياسيين، وقد تحقّق إجمالاً، وفي مستوى المواطنين ولم يتحقّق بعد، لأن شعب لبنان لا يزال مُبدعاً خلاّقاً كما قالت الكاتبة الصديقة.