عبدالرحمن مرشود

الهوية الإنسانية تتركب من الشعور بالانتماء والشعور بالمعنى. تراجعت قيمة الانتماء تبعا لانحسار تقدير المرء للحظته الماضية، وانخفضت العناية بالمعنى بانكفائه عن رؤية مستقبله

يُعنوِن حسابه في الواتساب بأحد أقوال السلف الصالح، ثم يرسل منه مقاطع فاضحة. يدخل في جدل تويتري يزايد فيه بمفردات الغيرة والعفاف ثم يغرّد بعدها بشتائم وألفاظ خادشة للذوق الإنساني. كعادة المجتمعات في سكّ المصطلحات عند ظهور الحاجة لها، صعد مؤخرا في الأوساط المحلية مصطلح (الاستشراف) كتعبير وصفي لهذه الظاهرة. 
هناك من نظر إلى هذه الظاهرة بشيء من التبسيط فاعتبرها امتدادا لمفهوم الازدواجية، حيث يوزع المرء ذاته على أكثر من هويّة، أو ما يرمز إليه البعض بشخصية (سي السيّد) بطل ثلاثية نجيب محفوظ، الذي كان يحافظ فيه على نمط وقور من العيش بين أهله، بينما يعيش حياة مغايرة تماما في المواخير. ولكن يبدو لي أن الإحالة على هذا المفهوم لا تساعدنا كثيرا في فهم هذه الظاهرة المتفشية مؤخرا. حيث اقترح شيئا من توسيع الأفق نحو النظر إلى تداعيات العولمة كي يساعدنا في مقاربتها وفهمها.
يقدّم لنا المفكر البولندي (زيجمونت باومان) مفهوم (تفتّت الزمن) كأحد مفاهيم نظريته عن الحداثة السائلة وهي الحالة الذي يزعم طغيانها على إنسان العصر الحديث. في عالم تقلّص فضاؤه المكاني، وانفجرت فيه المعلومات، وازدحمت فيه الخيارات أمام الفرد، على نحو لم يعهده من قبل كان من المتوقع أن يضيق الزمن ويرتفع قلق الإنسان عند التفكير في مجاراته. توصل الإنسان تلقائيا إلى حيلة تعينه على تطويع قلقه وتساعده على التعامل مع غزو الخيارات. لقد قرر أن يجزئ حياته الممتدة إلى (وحدات حياتية صغيرة) ويتعامل مع كل وحدة منها بشكل مستقل وهو ما أسماه البعض (طغيان اللحظة). تُرجم هذا في أشكال من الخطاب تؤكد باستمرار على أهمية عيش اللحظة الحاضرة فحسب دون اكتراث بما قبلها أو بما بعدها. تلاشت قيمة الماضي، وكذلك المستقبل، أمام طغيان اللحظة الحاضرة وهي لحظة مهددة بالفناء دائما إذ لا تلبث أن تنقضي أمام غزو لحظة تالية كذلك. بات كل ما حولنا يقول لنا إن الرهان على طول الأمد لا طائل منه. فالحياة الحديثة كلها تقريبا تسير وفق نظام (اشترِ وتخلّص بعد الاستعمال). لا ينحصر هذا في المشتريات الورقية والبلاستيكية فحسب، بل حتى المعدّات الثقيلة لم تعد تركز على طول عمر مكوناتها كميزة تنافسية. انعكس ذلك أيضا على البشر، حيث صاروا يميلون إلى عدم التورط في علاقات يترتب عليها التزامات أخلاقية طويلة المدى. انخفضت أهمية علاقات الصداقة والجوار والقربى، وصار الطلاق أمرا يسيرا إذا ما قورن بالتداعيات النفسية الناتجة عن التزام ما عاد يطيقه الإنسان الحديث. فالبدائل تلوح دائما للفرد وتتقافز إلى وعيه، لا يهم مدى جودتها وصدقها ما دامت تتوفّر باستمرار. تعدّت هذه (السيولة) حتى بلغت شعور المرء بهويته. 
يبدو هذا مفهوما إذا عرفنا أن الهوية الإنسانية تتركب من الشعور بالانتماء والشعور بالمعنى. تراجعت قيمة الانتماء تبعا لانحسار تقدير المرء للحظته الماضية، وانخفضت العناية بالمعنى بانكفائه عن رؤية مستقبله. صار من النادر انشغاله بسؤال (من أنا) أو سؤال (لماذا أنا موجود). صار ما يلحّ عليه فقط هو (ماذا أريد الآن) أو (ماذا عليّ فعله هنا). إذن تشظّت هوية الإنسان مع تفتت الزمن الذي يعيش، فلم يعد له هويّة ممتدة يطل من خلالها على وجوده ووجود ما حوله. هي هويات وَمْضيّة يعيشها ولا يهمّ إن كانت حقيقية أم مزيفة، ما دامت على هذا النحو من الضآلة وقصر العمر. كما يجري الأمر من عدم اكتراث بالفارق بين الحقيقي والمزيّف، أو الأصلي والمستعار عندما نتعامل مع أدوات لا نحتاجها إلا لمدة قصيرة من الوقت، جرت نظرة الكثيرين إلى ذواتهم بنفس الطريقة. وهو ما أدى عندهم إلى ما يشبه (الاعتلالات السيكوسوماتية)، حيث صاروا لا يميزون بين حقيقة الأمر ومحاكاته، فصاروا كما يقدرون أبطال الشهرة المزيفين تقدير القدماء لأبطالهم الحقيقيين، يسمحون لذواتهم أيضا بأن تتقمص كل دور ترغب به، إذا تسنى هذا في نطاق زمني لا يدركون منه سوى مقدار ضيقه وضرورة اقتناصه. كان (سي السيد) يعيش حالتين واعيا بحدودهما. ولكن هؤلاء (المستشرفين) لا يملكون مثل هذا الوعي ولا يعنيهم كثيرا أن يضبطهم غيرهم في حال مخالف لما يزعمون. فمثل هذا لو حدث فسيكون في وحدة حياتية صغيرة أخرى، وسرعان ما تنقضي وتنسى، فذاكرة البشر صارت تكتب بأقلام الرصاص.