فيصل الجهني

المثقف الحقيقي هو الذي ينحاز دائما وأبدا (وأبدا) لقيم الحرية والعدالة والمساواة والحب والحداثة والجمال

دعاني لمقاربة موضوع (الثقافة والمثقفين) ثلاثة أمور تعج بكثير من الاضطراب وهي: تسامح كثير من أفراد المجتمع مع الصحفيين عامة والرياضيين منهم خاصة بإدراجهم جميعا ومباشرة ضمن طائفة المثقفين، والأمر 
الثاني هو التداخل المفهوماتي بين (الإعلامي) و(الأكاديمي) و(المثقف)، أما الأمر الثالث فهو تنامي عدد المحللين والمنظرين مع ظهور بعض الأزمات السياسية والاجتماعية، بدون أن يستند هؤلاء إلى دعائم ثقافية معرفية حقيقية تخول لهم طرح مثل تلك الأحكام الصارمة والآراء الصادمة! لذلك فإن التساؤل عن ماهية المثقف الحقيقي يبدو أكثر إلحاحا، لنفض الغبار المتراكم على كثير من الحقائق الغائبة! أزعم أن عدة شروط يجب توافرها في الشخص حتى يكون مثقفا بجد، وشروط أخرى إضافية كي يكون مثقفا حقيقيا، يقبل منه أن يستنبط الأحكام والنظريات، ويصرح بها مباشرة وعلنا (بعد أن يكون قد صادقها سريعا مع ما يختزنه وعيه من معلومات بطرق استقرائية مجربة)! ولعل أهم تلك الشروط مطابقة التصور التراثي للثقافة باعتبارها الأخذ من كل علم بطرف، ولكن مع عدم إجبار المثقف على ذلك (الأخذ) مع كل مؤلف وموقف، ولا شك أن ذلك التصور يمنح المثقف فرصة لاستثمار ما اكتسبه من علوم ومعارف وفنون في إعادة إنتاج المعرفة أو لإثبات فرضيات عامة أو.. أو..! وأيضا مع ضرورة الالتفات إلى علوم العصر وحضارته الرقمية.
ومن تلك الشروط اكتساب المثقف لتلك النظرة الشمولية التي تسطع مع صفاء الذهن واتساع مساحة المعرفة، لأن من شأن هذه النظرة إدراك العلاقات المهمة بين شوارد وحوادث المعرفة: العلوم الطبيعية بالإنسانية.. التفكيكية بحفريات المعرفة..
النهضة العربية بالنهضة الأوروبية. هذه العلاقات المتبادلة مهمة لتفادي النظرة المختزلة الضيقة التي تفضي لإنتاج قراءات ناقصة مشوشة! ولعل امتلاك آلية منهجية صحيحة في الذهن من أبرز مكتسبات المثقف الحقيقي، لأنه بدونها يصبح آلة استقبال فحسب للمعلومة، لا تستطيع إرسال أي ناتج للحراك المعلوماتي، بمعنى غياب الاستثمار المعرفي الذي تنتج عنه التصورات والرؤى وأفكار المشاريع البحثية.
ومن المسائل المهمة في هذا الشأن مسألة الاستمرارية المنظمة في الإنتاج التأليفي عبر الوسائل المتنوعة، إذا لا مكان هنا لإحالات المزاج وضيق الوقت! كما أن مبدأ التراكمية يعد أمرا مهما، يجعل المثقف بمنأى عن الارتهان النمطي المستمر لمستوى معرفي واحد، فجديد اليوم سيكون قديم الغد، وأطياف الثقافة أطياف متحركة متحاورة باستمرار (وربما تأتي الفرصة هنا للحديث عن خطورة غياب التراكمية من جهة أخرى وهي الوفاء والرضوخ التام لسلطة واحدية: أيديولوجيا.. تيار.. نظام سياسي أو اقتصادي)! ومن الشروط -كذلك- اندماج المثقف مع المؤسسة المدنية الكبرى للمجتمع، من أجل حدوث التناغم المنشود بين المثقف والمجتمع، ليقعا في علاقة ديالكتيكية من التأثر والتأثير الإيجابي، فبقاء المثقف في أبراجه العاجية يجعله في دوامة يوتوبيا سلبية حالمة، على جناح طائر.. في آفاق مستحيلة! ولا شك أن تخلق المثقف بالقيم النبيلة للعلم والمعرفة من موضوعية وأمانة ومصداقية تبعده عن الانزلاق الفج في حمى الدعايات والماديات والنفعيات، فيضمن اعتداده المشروع بذاته المتميزة، واحترام المتلقين لثقافته على السواء.
وأخيرا -حتى لا تطول السالفة- فإن المثقف الحقيقي هو الذي ينحاز دائما وأبدا (وأبدا) لقيم الحرية والعدالة والمساواة والحب والحداثة والجمال.
تلك أبرز بنود عقد الثقافة مع القائمين عليها والمشتغلين بها، مع ملاحظة أن عدم تحقق بعض البنود والاشتراطات أحيانا لا يلغي وجود (المثقف)، ولكنه وبما يلغي وجود (المثقف الحقيقي)، فربما وجدت مثقفا توافر على كافة الشروط السابقة، ولكنه يؤثر أن يظل بعيدا عن توترات الواقع وأزمة المجتمع داخل مكتبته أو جامعته أو منزله، ومع ذلك فلا تملك إلا أن تدعوه باستحقاق (مثقفا) فحسب! حسنا.. هل نستطيع بعد ذلك أن نسمي عددا من المشتغلين بالثقافة وشؤونها (مثقفين) فقط أم (مثقفين حقيقيين)؟ أم أن المسألة (بالنصيفة) مع تلك الأسماء البارزة في مشهدنا الثقافي العام مثل: محمد حسن عواد، وحمزة شحاتة، وعبدالله عبدالجبار، والجهيمان، والجاسر، والغذامي، وخزندار، ومعجب الزهراني، وتركي الحمد، وعلي العميم، والبازعي، والألمعي، وعلي الدميني، ومحمد العلي، وحسين بافقيه، وعاصم حمدان، وعثمان الصيني..
أترك لوعيكم المثقف عمل تلك القائمتين اعتمادا على الشروط التسعة في ثنايا هذا النثار..!