عبدالرحمن الطريري

حدثني زميلي أيام الدراسة، في أمريكا عن برنامجه اليومي، الذي يبدأ عند الساعة الثالثة فجرا، كما يقول، إذ يوقد الحطب للتدفئة، حيث وقت الشتاء، والبرد القارس، وبعد التدفئة يزاول شيئا من الرياضة ليبدأ في المذاكرة، وحل الواجبات. بقي هذا الحديث مع زميل الدراسة مستقرا في ذاكرتي، رغم مرور عشرات السنين، ومع أني نسيت اسم الزميل، لكن قيمة الحديث تكمن في الروح النشطة التي تحفز صاحبها، في ذلك الوقت، في الشتاء قارس البرودة.

صورة النشاط، والحيوية رأيتها في أماكن عدة، في مدن عالمية، كبيرة، في نيويورك، وشيكاغو، وسان فرانسيسكو، ولوس أنجلوس، ولندن، حيث الناس يتوافدون إلى محطات القطار، والمواصلات العامة، مندفعين، وكأنهم يتسابقون على أموال منثورة، في الشارع، وكل واحد يرغب في الوصول إليها قبل الآخرين لينال النصيب الأكبر منها. كلما أرى هذه المشاهد أتذكر قول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ (لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، كما أسترجع قوله (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا).

ما من شك أن صورة التسابق للحاق برحلة القطار، أو الحافلة تنبئ عن شيء كامن يدفع الناس لهذا السلوك، والأمر كذلك، إذ إن الشعور بالمسؤولية تجاه الذات، والعائلة، والوطن يدفع الناس للوصول إلى مقر العمل في الوقت المناسب لأداء الوظيفة على الوجه الأكمل. أحد مسؤولي مكتبة جامعة لندن، أثناء تجاذبي الحديث معه، أثناء زيارتي للجامعة خلال سنة التفرغ العلمي، أخبرني أنه يخرج من منزله الساعة الخامسة فجرا، ليتمكن من الوصول إلى مقر العمل في الجامعة، قبل التاسعة صباحا، حيث تفتح المكتبة أبوابها، ذلك أنه يحتاج للتغيير من محطة قطار لأخرى. هذه الصور تؤكد الإصرار، والانتظام، والدقة، والحرص الذي يمثل ثقافة شعوب إزاء العمل، كما أنها تشكلت في بيئة تنافسية لا مكان فيها للكسل، والتراخي، لأن من هذه سجيته لن يستطيع العيش بالشكل الطبيعي الذي يضمن له حياة كريمة. هذه المشاهد، والمواقف أردت الإشارة إليها نظرا لأننا مقبلون على تحديات تقتضيها مرحلة إنجاز "رؤية 2030"، التي تمثل شعار المرحلة المقبلة مع ما تتطلبه من كفاءات وثقافة تتناسب والتحديات التي تستوجبها عملية تحقيق أهداف الرؤية.

حقيقة لا بد من تأكيدها هي أنه خلال العقود الماضية حصلت تغيرات ثقافية، ذات طابع سلبي تجاه العمل، وأهم ملامح هذه الثقافة ضعف دافعية العمل، عدم وضوح أهداف الحياة للشاب، التردد، والقبول بالحد الأدنى من الإنجاز للبعض، إضافة إلى السعي الحثيث للقبول بالوظيفة الحكومية، حتى لو كان عائدها المالي ضعيفا، وتجنب العمل في القطاع الخاص، كما يلاحظ قلة المبادرات الشخصية، كما أن الوقت ليس له قيمة، فالفرد لا يوجد لديه برنامج يومي يبين الأنشطة والواجبات التي سيقوم بها، ما يترتب عليه من تسويف وتأخير للمهمات.

وما من شك أن التربية المنزلية، والتعليم الرسمي لهما دور رئيس في تشكيل هذه الخصائص. المنطلقات النظرية، المحفزة على العمل والجدية كثيرة ويحفظها الناس، إما من كتبهم الدراسية، أو من خطب الجمعة، فالحث على العمل المبكر قول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ (بورك لأمتي في بكورها)، ولو تأملنا في الواقع لوجدنا أن كثيرين لا يقيمون وزنا لهذا المبدأ الحياتي المهم، بل إن البعض تحول ليله إلى نهار يقضيه في المقاهي، والاستراحات، أما النهار فيقضيه في النوم ليستيقظ كسولا، لا يكاد يتحرك. فماذا يرتجى من شباب هذا وضعه، وهو من ستوكل له مهمة تنفيذ برامج «الرؤية»؟ الواقع الإقليمي والعالمي فيه كثير من التحديات، كما لا يجب إغفال التحولات السريعة، بل المفاجئة في كثير من الأحيان، إضافة إلى أن التقنيات الحديثة والتراكم المعرفي يتطلبان جيلا لديه من الحماس ما يكفي لمسايرة كل جديد حتى نتمكن من تنفيذ متطلبات "الرؤية"، التي لا يمكن التهوين من متطلباتها الثقافية، والمعرفية، والمهارية، والقانونية، والتنمية، وإعادة الهيكلة، والتدريب، وإعادة التأهيل، وفي ديننا ما يؤكد ضرورة مسايرة مستجدات العالم (ربوا أبناءكم لزمان غير زمانكم)، فإذا كانت "الرؤية" تمثل برنامجا مختلفا فمن المؤكد أن البرنامج يحتاج لعقول، ومهارات، وثقافة تتناسب مع أهداف "الرؤية" الطموحة. إن أس التغيير ينطلق من التربية والتعليم بأشكالهما كافة، وقنواتهما، فهل تربيتنا، وتعليمنا جاهزان للاضطلاع بمهمتهما العظمى؟! لا أعتقد ذلك كما أجده في المخرجات التي نتعامل معها في الجامعة، وكما يذكره أرباب العمل في مخرجات الجامعات، وعلينا تلمس مواضع الخلل لمعالجتها.