كمال زاخر موسى 

لا جديد تحت الشمس، قبل قرنين من الزمان عندما اُخترعت آلة البخار إيذانا بميلاد الطور الأول من الثورة الصناعية، كان العالم محكوما بقواعد المجتمع الأبوى الإقطاعى الرتيب، كما فى الدولة كذلك فى الكنيسة بوصفها المؤسسة الدينية فى الغرب مسرح الثورة الصناعية، فإذا بهذه الثورة تربك حسابات العالم، وتعيد ترتيب العلاقات بين مكوناته البشرية وفقا لموقعها من منظومة الإنتاج، وتتقاطع المصالح بينها وتتصادم، وينعكس هذا على الخريطة السياسية، فتظهر النقابات والأحزاب، ومدارس اليمين واليسار، كل يدافع عن مصالح طبقته وتجمعه، وتتعرض ثوابت ذاك الزمان لأعاصير الرفض والتشكيك، وتدور رحى الصراع، بين من يدافعون عن «الثوابت» ومن ينشدون «المعاصرة»، ويعرف الغرب نسق الإنتاج الكبير، ويزداد احتياجه لأسواق جديدة، ولمصادر المواد الخام والأيدى العاملة الرخيصة، فيتجه إلى التوسع الاستعمارى، بدءا من الهند وجنوب شرق آسيا، ويتولد الصراع بين أقطابه لتأمين الطريق الى تلك المستعمرات من جانب وقطع الطريق اليها من جانب آخر. وتصبح افريقيا مغنماً لتلك القوى الاستعمارية، وتشتعل نيران حربين عالميتين، وتنتفض المستعمرات مطالبة بالاستقلال والحرية، وتتبدل خرائط العالم، وتسقط قوى وترثها أخرى. وتقفز الفلسفة لتبلور هذا وربما تؤسس له، بين الوجودية والعدمية والماركسية والإلحاد، بتوقيتات متفاوتة، ويتشكل العقل النقدى، ويقفز الشباب طاقة التغيير والاحتجاج ويعيد كتابة معادلات الغرب السياسية والاجتماعية، ويرفض ما استقر من جيل الآباء المؤسسين لأوروبا الحرة، ويتصادم مع معطياتهم، وتنتشر دعوات كسر التابوهات والتقاليد، وتشهد ستينيات القرن العشرين موجات شبابية وصفت وقتها بالمجنونة، وتعود الفلسفة مجدداً لتدفع باتجاه كسر القيود التقليدية، لكنها لا تفضى إلى فوضى، بفعل العقل النقدى وسقف الحرية المرتفع وقدرة تلك المجتمعات على الحوار والجدل وقبول الاختلاف. 

تتوالد الثورة الصناعية حتى تنتج ثورة جديدة؛ الثورة الرقمية، بمعطيات جديدة وعلاقات جديدة، ومعها تجد المعلومات طريقها إلى اقصى بقاع الأرض، ومعها تفقد مؤسسات التنشئة التقليدية، وفى مقدمتها المؤسسات الدينية، والدولة، سيطرتها على مسارات المعرفة وسيولتها، وتجد الأجيال الجديدة الغضة تحت ناظريها طوفانا من الأبحات والدراسات الناقدة والمفككة للثوابت الدينية المستقرة، بشكل مباغت ومكثف، لا تجد التيارات التقليدية إلا وصف ما يحدث بأنه مؤامرة كونية تسهدف الدين. وما ارتباكات العالم الثالث إلا واحدة من تداعيات هذه التطورات المتلاحقة، حتى ما اطلق عليه ثورات الربيع العربى لا يمكن إخراجه من زمرة هذه التداعيات، بل استطيع أن احسب الإرهاب والإلحاد، رغم تناقضهما، ضمن هذه التداعيات، أو اعتبارهما تنويعات متوقعة على ثورة الاتصالات وشيوع المعلومات وخروجها عن السيطرة. فمن اختار الإرهاب مسلكا ومنهجا، يؤمن بأن هذا القادم الجديد، طوفان المعرفة، هو عدو يقود حربا موجهة ضد ما يؤمن به، ومن ثم تصبح مقاومته وتعقبه وقتاله حقا مشروعا وفرض عين، لا يمكن التنازل عنه أو إحالته إلى آخر، وتتجمع لديه كل خبرات التراث، وكل أحلامه المجهضة وإخفاقاته المتوالية، ولعل هذا يفسر ما يحمله الإرهاب من عنف ودموية وانتشار. خاصة أن مؤسساته التقليدية لم تعد بإمكانها، ووفق قناعاتها الحاكمة لتحركها، ملاحقة ما تحمله آليات وتقنيات التواصل المتجددة والتى صارت فى كل يد، بتنويعات العالم الافتراضى العصية على السيطرة والتحكم، ولم تعد تلك المؤسسات هى المصدر الحصرى للمعلومات، وإزاء هذا العجز كان الإرهاب هو البديل فى هذه المواجهة. أما من أخذته نداهة الإلحاد فقد هاله ما حملته ثورة الاتصالات من طوفان معرفى، وقد اقتحمت حياته، لم يكن يملك أدوات تحليلها وتقييمها، وفق ذهنه الذى تشكل على قواعد النقل، خاصة فى عالمنا الشرقى والعربى تحديدا، الذى يرى فى الحوار خروجا على آداب العلاقة الجيلية، ويحسب الجدل تنويعه على الانفلات، ويكرس مبدأ الطاعة ويحسبها من حسن الخلق، ويكرس التراث ويقدسه، ولا يقر بما فعلته به ازمنة التراجع واضافت إليه من عندياتها ما ليس فيه، وبعض تلك الإضافات فلكلور شعبي تشكل خارج رحم الدين، فتساقطت أمام هذا الطيف من الشباب كثير من الثوابت التى استقرت عنده. 

ازمة مجتمعاتنا هى قناعتنا بـ «الخصوصية» ورفض التفاعل مع الثقافات الأخرى، حتى تحولت عندنا إلى حائط صد يمنع انتقال خبرات الغير فى كيفية معالجة هذا الأمر، ومواجهته، بل ويحرض عليها، باعتبارها مؤامرة تستهدف ثقافتنا وتراثنا، حتى إن البعض صك مصطلح «الغرب غرب والشرق شرق»، ولم يكن قد أدرك ما فعلته السماوات المفتوحة، وعالم المعرفة العابر للحدود والأجناس والثقافات. ولعلنا فى تتبعنا لمسار الحضارة الإنسانية نكتشف سر تطورها فى تلاقح الثقافات، وتواصلها الإنسانى، وهو ما استفاد منه الغرب فقفز فوق عصوره الوسطى، وعالج إخفاقاته، وامتلك شجاعة الاعتراف باختلالات مجتمعاته وطرحها على مائدة الفحص والبحث، حتى انتهى الى دولته الحديثة ومنظومات حقوق الإنسان، وضبط العلاقات البينية داخله فى توازن دقيق والتزام صارم، فيما يعرف بدولة القانون. أما نحن فنجنى ثمار إخفاقاتنا السياسية بامتداد ما يقرب من قرن أو يزيد، فقد نقلنا مع محمد على شكل الدولة الحديثة بمعايير وقتها، لكننا أدرناها بمفهوم القبيلة، حتى فى وجود مؤسسات الدولة، ورفعنا شعار «المدنية» بينما كنا نخضع لولاية الفقيه على الأرض، ووضعنا منظومة قانونية وتركنا العرف يقودها، وكان الحاكم مدنيا ،بينما أذنه وعقله ينحازان للرؤى الدينية، وانسحب هذا إلى الدولاب الحكومى بجملته، وتعمق هذا مع الانحيازات السياسية فى النصف الأخير من القرن العشرين، عبر التحالفات المعلنة وغير المعلنة، وانعكس هذا على منظومات التعليم والثقافة وتشكيل الذهنية العامة، وحتى فى دستورنا فى نسخته الأخيرة 2014 خشينا الإقرار بمدنية الدولة فى نص صريح فنقرأ فى ديباجته : «نحن الآن نكتب دستورًا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية.!!» هل نملك شجاعة مواجهة أنفسنا والإقرار بحاجتنا إلى تمكين الدولة المدنية، كما عرفها العالم من حولنا، والتى لم نختبرها حتى الآن، حتى نخرج من دوامة الحلول المؤقتة والجزئية والخاتلة، ولن يتحقق هذا إلا بمصالحة حقيقية بين الفكرى والسياسى، على ارضية المصارحة والمكاشفة، والجدية والالتزام.