صدقة يحيى فاضل

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في قرارها رقم (58/‏4) وتاريخ 31 /‏10/‏ 2003م، اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. واعتمدت المملكة لاحقا ما عرف بـ «الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد»، التي تم إقرارها بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (43) وتاريخ 1 /‏2/‏ 1428هـ. ومعروف أن هذه الإستراتيجية إنما صيغت وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المشار إليها، بعد انضمام المملكة إلى هذه الاتفاقية عام 1426هـ. فتضمنت عدداً من الإجراءات لمكافحة الفساد، كما تقتضي اتفاقية الأمم المتحدة.

ومن يقرأ هاتين الوثيقتين يلمس الانسجام القانوني والسياسي بينهما. كما أن معظم الأحكام الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تتطابق أيضاً مع أحكام واردة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، التي سبق أن انضمت المملكة إليها بتاريخ 24 /‏3 /‏1425هـ. وبالتالي، فإن غالبية الأحكام الواردة في هذه الاتفاقية تعد شمولاً بما ورد في الأنظمة المعمول بها في المملكة. وهناك مواد قليلة سبق للمملكة أن تحفظت عليها. وما زال هذا التحفظ قائماً.

وتطلبت هذه الاتفاقية تسمية سلطة مركزية، توكل إليها مسؤولية وصلاحية تنفيذ بنودها ومكافحة الفساد. وتم اعتماد «وزارة الداخلية» بالمملكة لتكون هي هذه الجهة. وعلمت أن هذه المهمة أوكلت أخيرا لـجهاز «أمن الدولة». ومن ضمن الآليات التي أوصت الاتفاقية الدول الأعضاء فيها باتباعها لمكافحة الفساد: إنشاء هيئات مستقلة تتصدى للفساد، وتحاول منع وقوعه. ونصت «الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وحماية النزاهة» على إنشاء «هيئة» لحماية النزاهة ومكافحة الفساد يغلب عليها طابع المجتمع المدني.

***

ومعروف أن «الإستراتيجية الوطنية (السعودية) لحماية النزاهة ومكافحة الفساد» تكونت من «مقدمة» وأربع نقاط رئيسة، هي:

أولاً: المنطلقات: التي ترتكز عليها هذه الإستراتيجية، أهمها: كون الدين الإسلامي الحنيف (عقيدة وشريعة ومنهج حياة) الركيزة الأساسية التي تحكم هذه الإستراتيجية، في كل بنودها ومضامينها، وتعد كل عمل مسيء في الوظيفة الحكومية والخاصة فساداً وجريمة تستوجب العقاب، في الدنيا والآخرة. وكذلك كون الفساد أكبر معوقات التطوير والتنمية، التي يجب مكافحتها...

ثانياً: أبرز أهداف هذه الإستراتيجية: حماية النزاهة ومكافحة الفساد بشتى صوره ومظاهره، وخاصة فيما يتعلق بحماية المال العام.

ثالثاً: أهم «وسائل» تحقيق تلك الأهداف: تشخيص مشكلة الفساد بالمملكة، ومعاقبة المخالفين بعقوبات مناسبة على ما يرتكبونه من مخالفات.

رابعاً: إنشاء «هيئة وطنية لمكافحة الفساد»: تتولى متابعة تنفيذ هذه الإستراتيجية، ورصد نتائجها، وتقويمها ومراجعتها، ووضع برامج عملها وآليات تطبيقها موضع التنفيذ. وانشأت هذه الهيئة بالفعل، كما هو معروف.

***

إن إبرام هذه الاتفاقية، وانضمام معظم دول العالم - وفي مقدمتها المملكة - لها، يدل على إدراك العالم لخطورة ظاهرة الفساد، وضرورة مكافحة هذه الظاهرة، محلياً وإقليمياً وعالمياً. وما صدور الإستراتيجية الوطنية القائمة على مبادئ وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وكذلك بقية الاتفاقيات الدولية المشابهة، التي انضمت إليها المملكة، إلا تأكيد على عزم المملكة على محاربة الفساد، لأقصى حد ممكن، لا سيما وقد تفاقمت هذه الظاهرة بالبلاد في العقود الثلاثة الأخيرة، واستشرت لدرجة بالغة الأذى والضرر.

وتعتبر هذه الاتفاقية من الاتفاقيات الدولية الهامة، الساعية لتحقيق مصلحة عامة حيوية مشتركة. وهناك تواؤم وانسجام عام بين ما هو معمول به في المملكة من أنظمة وتعليمات وما تنص عليه مبادئ وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد هذه. دُرست (بضم الدال) هذه الاتفاقية في مجلس الشورى، في ضوء ما تضمنته الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، واتضح هذا الانسجام القانوني والسياسي والإداري المشار إليه، ومراعاة لإلزامية القانون الدولي للدول العضوة فيه.

وتبدو حكومة المملكة حريصة على تطبيق كل الوسائل الممكنة، والمتمشية مع القوانين والأنظمة المحلية والدولية، خاصة ما يتعلق منها بحماية النزاهة ومكافحة الفساد. وما الحملة الكبرى التي شنتها الدولة أخيرا لمكافحة الفساد، واسترداد الأموال العامة المنهوبة، إلا دليل على هذا الحرص في مكافحة هذه الظاهرة المدمرة، التي تكاد تتساوى مع ظاهرة الإرهاب، التي نظل من أكثر المحاربين لها. وكل من اتفاقية الأمم المتحدة والإستراتيجية الوطنية المشار إليهما هنا تبيح للسلطة القيام بحملات مكافحة استثنائية من حين لآخر. ويقال إنه نتج عن هذه الحملة فقط استرداد 400 مليار ريال حتى الآن، تتضمن القيمة التقديرية للتسويات مع أغلب المتهمين في قضايا الفساد.

وبما أن الحملة الكبرى الأخيرة اتسمت بشيء من الشفافية والعلنية، فإنها نجحت. وحبذا لو تعطى الهيئة الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد صلاحية التشهير بمن تثبت إدانتهم فقط. فـ «التشهير» النظامي هو أمضى أسلحة مكافحة الفساد، وأكبر العقوبات الرادعة التي يجب إنزالها بمن ثبت جرمه بحق بلده وشعبه، فأمسى لا يستحق الستر، أو الرأفة. أما من أعلن اتهامه، ثم ثبتت براءته بعد التحقيق، فالعدالة تقتضي رد اعتباره، رسمياً وفوراً.