إبراهيم غرايبة

 قضية العلمانية الجوهرية هي أن الإنسان قادر على فهم حياته وتنظيمها، وأن المؤسسات التشريعية المنتخبة وما ينبثق منها هي الأداة المرجعية والقياسية للعمل وإدارة الخلاف بين الناس، وليست معنية بمحتوى وطبيعة الخطاب الديني، في ذلك هي متعلقة تحديداً بعلاقة الدين بالدولة، ومن ثم فإن خلاف العلمانيين الأساسي مع السلطة التنفيذية وليس مع الدين أو الدعاة والجماعات الدينية. وفي اللحظة التي يتوقف نضال العلمانيين ضد الوصاية الدينية والثقافية للدولة، ولو كان هذا الدور تنويرياً، فإنهم يخونون العلمانية ويعملون ضد الحريات واستقلال المجتمعات، ويساهمون في تكريس الاحتكار والاستبداد.

والحال أن الجدل الديني العلماني يحتاج إلى تحرير؛ ذلك أنه يمضي في اتجاهات بعيدة من أهداف الدين والعلمانية معاً، إذ يظن كثيرون جداً من دعاة العلمانية أن الحكومة (المؤسسة والطبقة) حليفتهم، ويتوهمون أن معركتهم مع الدعاة الدينيين السياسيين هي التأثير على الحكومة لاستبعادهم من الفضاء العام. ويلجأ كثيرون جداً أيضاً من الدعاة الدينيين إلى السلطة لتحريضها على خصومهم. وفي ظل هذا الوهم، يظل النضال الديموقراطي والعقلاني يدور حول نفسه، ويظل مناضلو الحريات يهربون/ يتهربون من مواجهة الحقائق الأساسية: من هم وماذا يريدون؟ وأين تقف النخبة السياسية والاقتصادية بالنسبة إلى رؤيتهم أنفسهم ومجتمعاتهم؟

أسوأ ما يقع فيه دعاة الاعتدال والتنوير (من متدينين أو علمانيين أو علمانيين متدينين)، أن يراهنوا على الحكومات في رسالتهم، ليس فقط لأن الحكومات (المؤسسة والطبقة) لا مصلحة لها مع الاعتدال والتنوير، وليس فقط لأنها المسؤولة عن الحالة السائدة وأنها أنتجتها بوعي مسبق وأنفقت عليها المليارات من الضرائب والموارد العامة والتبرعات والمنح، ولكن أيضاً لأن السلطة السياسية لا يمكنها حتى لو أرادت بصدق وجدية، أن تقوم بدور تنويري. يكفي الحكومة أن تحرر المناهج التعليمية من الضعف والخواء، وأن تضعها على نحو عام في اتجاه الإبداع والتفكير الحر والنقدي والمهارات الحياتية والعلمية والإبداعية... ثم يمضي المواطنون في الاتجاهات والأفكار التي يختارونها، ولا بأس بذلك في ظل الالتزام بالقانون.

ما يجتهد فيه اليوم علمانيون ومتدينون من أجل التوفيق بين الدين والديموقراطية، ودرء التناقض والاختلاف بين الدولة المدنية والإسلام لا يفيد في شيء، بل يلحق ضرراً بالدين والعلمانية والسياسة، ويحرف النضال الاجتماعي والسياسي عن غاياته وأهدافه، بما هي الحريات والازدهار في ظل ولاية الناس على السلطة والموارد، وأن الإنسان قادر وحده على إدراك وتمييز، لا يضيف بعد ذلك التوفيق شيئاً (سواء كان صحيحاً أو متوهماً) إلى الحياة العامة والعقد الاجتماعي سوى أنه يزين الوصاية الدينية والسياسية على المواطنين ويسلبهم الولاية على شؤونهم.

وأفضل ما تفعله الحكومة هو الحياد تجاه الدين والثقافة، وأن يتحول الجدل الديني والثقافي إلى حالة مجتمعية وخلاف وجدل اجتماعي، وأن تكون الحكومة ضامناً لسلمية هذا الجدل والتزامه بالقانون، وأن تساعد المجتمعات على تنظيم نفسها واستقلالها. وهذا ما يجب أن تناضل لأجله تيارات العقلانية الاجتماعية والأخلاقية، أن تظل متمسكة بخيار العمل لأجل اتجاهات وقواعد اجتماعية لهذه التيارات، والأهم دائماً أن توجه نضالها وتأثيرها باتجاه السلطة السياسية والمؤسسات الرسمية لتلتزم الحياد في دورها الديني وفي موقفها المؤسسي والقانوني والإنفاق العام، بمعنى وقف الدور الرسمي في إدارة وتولي الشأن الثقافي والديني والتعليم الديني، وردّ التشريعات والقوانين المنظمة لحياة الناس وعلاقاتهم إلى الدستور والمواطنة بما هي قائمة على العدل وولاية الشعب على السلطة. فليس ثمة فرق في الهيمنة والوصاية الدينية والثقافية التي تمارسها السلطة التنفيذية، سواء كانت هذه الوصاية لأجل التنوير والاعتدال، أو لأجل التعصب والجمود.