علي عبد الخالق

يَحير المواطن في سعيه الميؤوس منه وهو يحاول ان يحدد مقياساً لما هو سيء وما هو أسوأ، لعله يستطيع، دون أن يتجنى على أحد، أن يضبط ايقاع حركته ومواقفه كأولية مباشرة لفرز الطبقة السياسية والتركيز على الحلقة الاساسية فيها، متطلعاً الى اقصائها عن المشهد السياسي عبر حركات الاحتجاج الجماهيرية والفعل السياسي المباشر، كمسارٍ لتفكيٍك بنية المنظومة الطائفية وانقاذ البلاد من هيمنها ومحاصصاتها المُذلة .


اعتماد قاعدة الكفاءة والأهلية والنزاهة ووضع الشخص المناسب، رجلاً أو إمرأة، في المكان المناسب، باتت من الماضي وتدجّنت لتأخذ صيغة التابع والموالي والمنتمي سبيلاً لتلك القاعدة. ولم يعد الموصوفون المتميزون من ذوي الخبرة والتمكين مُراد الحاكمين المقررين، لأن المطلوب لتبوء المناصب والمسؤوليات، هو أن يكون له تمكين من نوع آخر يؤهله للتكيّف مع بيئة استباحة البلاد والمشاركة في نهبها ونخر المجتمع وتخديره وجعله بلا حول ولا ارادة .
وتشاء الصدف السيئة أن ينفذ البعض الى مواقع لم تكن مقصداً لهم، ولم يراودهم حتى في احلامهم، فيصبحون ربما على كراهةٍ منهم أسرى مواقعهم، ومنالاً سهلاً لصاحب الفضل الذي لا يجدون مناصاً من الخضوع لمشيئته والانضمام الى فلكه ودائرة نفوذه.
وكما ضيّع الدكتور حيدر العبادي فرصاً نادرة واتته وكان ممكناً ان تجعل منه رجل دولة يحظىبالقبول والتمثل، فإن السيد سليم الجبوري، مع اختلاف الظروف والشروط والقاعدة السياسية الداعمة، لم يضيّع الفرص ليصبح هو الاخر مرجعية مقبولة لتكريس موقع لم يكن له، بغضّ النظر عما يتصف به من قدرة الادارة الخطابية التي تتطلبها رئاسة البرلمان، وسرعة البديهة في تعطيل القوانين أو تمرير ما يراه يفي بالغرض من وجهة نظره ويلقى القبول ممّن لهم دالة عليه، بغض النظر من مدى تعبير تلك القوانين عن المصالح الوطنية العليا وتطلعات الاوساط الشعبية والسياسية الوطنية الطامحة للاصلاح والتغيير.
قد يعود هذا النهج الذي اتسمت به ولاية الجبوري على البرلمان الى عدم استقراره على هوية سياسية واحدة يهتدي بها وينتمي اليها، فقد تنقّل أو تظاهر بتخليه عن انتمائه الاخواني، والتحوّل الى مواقع الحراك المدني، والدولة المدنية الديمقراطية، ولم يتوقف عند هوية واحدة بل تعددت هوياته ربما نتيجة تدبيرٍ غير مدروس. ولم يقتصر هذا التنقل على الانتماء والتوجهات وانما تعداه الى الذهاب بعيداً باعلان الولاء المبطن، تارة للسيد المالكي واخرى الضياع بين ايجاد وشيجة تواصل مع العبادي، ولم يجد حاضنة مريحة مُطَمئِنَة في نهاية المطاف الا بتسريب رسائل غير مباشرة او وجاهية الى اطراف الصراع الخارجية على تقرير في وجهة سير العراق على خطوط التناقضات التناحرية في الاستقطابات العربية والاقليمية والدولية، ونسي ان الرسائل والاشارات مهما كانت مشفرة سهل فكها وتسييل معلوماتها. ولان تجربته السياسية ظلت اسيرة اخوانيته، ولتعذراختبار خطوط التماس بين التقاطعات في الاوضاع الملتبسة عليه، توهم بان من الممكن الجمع بين العلاقة المريحة مع كل من قطر وتركيا وايران ومحاوراخرى تنفذ على بعضها البعض كما الاواني المستطرقة، متوهماً انه بذلك يصبح طرفاً فيما يسمى ب " لعبة الامم " المعقدة التي تضم كل الاساليب والوسائل، ولا تعتمد لغة المواجهة المكشوفة، وقرقعة السلاح ، وانما الدبلوماسية الناعمة في ادارة العلاقات الشائكة، والجمع بين مصالح كل الاطراف في "سلةٍ" واحدة والتعبيرعن توجهاتها. وفي كل هذه الدائرة من التنقلات لم يدرك ان الدول ليس لها حلفاء واصدقاء دائمون، وانما مصالح دائمة مستديمة، وليس مهما نوايا ممثليها وامتداد نفوذهم الى قمة القرار في بلدانهم، ناهيك ان من بين اساليب "لعبة الامم" تغيير الاشخاص كلما أُستُنفذت خداماتهم.
كل الحكام، باستثناءات تاريخية نادرة، يقعون اسرى اوهام دوام كراسيهم، وتماهيهم مع احلام يقظتهم بان الشعب صاراقرب اليهم من حبل الوريد ، مع انهم يدورون في محيط مكاتبهم الضيقة المعزولة المحاطة بحوارييهم ممن يغدقون عليهم الصفات والالقاب ويزيِّنون لهم افعالهم وصورتهم بين الناس، ويعيدون على مسامعهم ما يرغبونه ويدغدغ فيهم الاحساس بالتفرد، حتى يبلغ التماهي بهم الى حد القناعة بان الشعب يطالب باستنساخهم .!
قد يحل للسيد سليم الجبوري ان يتوهم أو يصيب في تقييم دوره وموقعه كما يشاء، فليست لذلك تبعات سلبية تنعكس على مصالح البلاد، لكنه ارتكب خطايا لا يمكن أن تمر، مثلما لم تمر خطايا غيره. ويكفي انه استدار على الدستور في اكثر من حالة، واستحلى دوره في تعطيل تشريع القوانين التي هي استحقاقٍ دستوري، واخفى متعمداً في ادراج مكتبه مشاريع قوانين محورية تتعلق بجوهر عملية استكمال عملية بناء القاعدة التشريعية " للدولة " وحال دون او اهمل الالتفات الى ضرورة اعادة النظر في القوانين التي تُعرّض المواطنين الى عقوبات مشددة عن ممارسات وافعالٍ كفلها الدستور في اطار الحريات الشخصية والعامة وفي مقدمتها قانون العقوبات الصدامية الذي بات العراقيون ضحية يومية لتطبيقه. وفي ادراج مكتبه اكثر من خمسين استحقاقاً تشريعياً دستورياً، منها قانون النفط والغاز، وقانون الاتحاد، وسوى ذلك من القوانين. ولم يلتفت الى القضايا العقدية التي من شأن عدم حلها " دستورياً " فتح الباب امام خياراتٍ مفتوحة تهدد وحدته، وتعمق الخلافات بين مكوناته واطيافه وقواه السياسية،وقلب المعادلات السياسية المتمثلة بالمشاركة وليس المحاصصة التي بني على اساسها العراق الجديد " القديم" المتكوّن بفضل ممارسات الطبقة الحاكمة.
وتبقى مسؤوليته غير المبرّأة في إمرار اسوء واخطر قانون اطاح بالمسلمات الكفيلة بحماية المجتمع وضمان تأمين الاستقرار والعدالة وتنقية بيئته من الجريمة المنظمة المتصاهرة مع الفساد والتفسخ وتكريسها، والمتمثلة في " قانون العفو العام " سيء الصيت والنية والغرض.وليس اقل منها سوءاً وعاقبة على مستقبل الديمقراطية والحفاظ على قرار الشعب وسويته ، تشريع قانون الانتخابات ، وتسمية اعضاء المفوضية العليا للانتخابات التي وضعت البلاد في اتون ازمة متفاقمة ، ولطخت ما تبقى من سمعة البلاد بفضيحة التزوير ومزاد بيع الاصوات وترحيل اصوات مرشحين لغيره من الفاشلين .
ان عاقبة تلبّس "وهم السلطة" وديمومتها، نتيجة فقدان الوزن، لاحقت السيد سليم الجبوري، وكان أن انزل الشعب به وبمئتين من زملائه واقرانه عقابه الذي مهما تأخر فانه يظل شبحاً يلاحق من يتوهّم انه فوق المساءلة والعقاب.
اولم يتردد ان التاريخ يعيد نفسه ، مرة كمأساة واخرى كملهاة . واي سخرية في تظاهر النواب محجوبي الثقة وان في انتخابات حامت حولها الشبهات امام بوابة المنطقة الخضراء ، بعد ان كانوا يلحون وهم في البرلمان اعادة الحواجز الكونكريتية التي رفعت من الشوارع التي تحيط بالبرلمان باعتبارها تكفّل امنهم من " الرعاع " ! والحرمان من الامتيازات والجاه والسطوة .؛!
واي عقابٍ اوقع من حجب الثقة والاقصاء ..