من الأمور البديهية أنه كلما طال أمد الحرب زادت تعقيداتها. والآن ونحن على أعتاب دخول السنة الثانية من الحرب في السودان، فإن قراءة المشهد توضح حجم هذه التعقيدات وتشابكاتها؛ بما ينبئ بأن المرحلة المقبلة ستكون أصعب، والشواهد كثيرة.

الهجوم بالمسيّرة الانتحارية الذي استهدف، مساء أول من أمس، مدينة عطبرة بولاية نهر النيل في شمال السودان، أحد هذه الشواهد، ويحمل أكثر من رسالة؛ الأولى محاولة توسيع دائرة الحرب بنقلها شمالاً، ولو عبر عمليات كهذه هدفها النفسي أكبر من مردودها العسكري؛ فـ«قوات الدعم السريع» ظلَّت تتوعد في كثير من التصريحات والفيديوهات، وعلى مدى أشهر، بنقل الحرب إلى مناطق أهل الشمال وبشكل خاص مدن شندي وعطبرة. من هذا المنطلق، فإن الهجوم ليس بالأمر المفاجئ، وإن كان يبقى تطوراً خطيراً.

الرسالة الثانية أن حرب المسيّرات تجعل توسيع رقعة الحرب، بتكرار مثل هذه العمليات، أمراً وارداً، لا سيما مع وجود خلايا نائمة ومتسللين، في ظل عمليات النزوح التي حدثت بسبب الحرب. فقبل هذه العملية كانت هناك جهات عدة تحذر منذ أشهر من خلايا نائمة في عدد من المدن، منها عطبرة، رغم أن السلطات الأمنية فرضت إجراءات أمنية، إلا أنها قد تحتاج إلى المزيد لسد الثغرات، وهو ما ينطبق أيضاً على المدن والولايات الأخرى في ظل هذه الظروف.

الرسالة الثالثة، وهي ربما الأهم، أن الهجوم الذي نُفّذ بمسيّرة انتحارية استهدف «كتيبة البراء»، إحدى أبرز كتائب الإسلاميين، التي دعت لحفل الإفطار الجماعي. ويبقى ضمن الاحتمالات أن الهجوم ربما كان يستهدف اغتيال قائد هذه الكتيبة المصباح أبو زيد الذي صعد اسمه وأصبح وجهاً معروفاً لكثيرين إبان هذه الحرب، بل منذ اليوم الأول لاندلاعها. وكانت مناسبة الإفطار الجماعي المعلَن فرصة سانحة لوجود عدد من منسوبي الكتيبة ومن الإسلاميين فيها، إضافة إلى عدد من ضباط القوات المسلحة ومسؤولي الولاية المدعوين، إلى جانب مواطنين عاديين لا علاقة لهم بهذه الكتيبة، وهذا أمر معروف في عادات السودانيين التي تفصل الأمور الاجتماعية عن المسائل السياسية.

بعد هذا الهجوم، ربما تعيد «كتيبة البراء» النظر في سياسة الاهتمام بالظهور الإعلامي والمشاركات الكثيرة في المناسبات الاجتماعية التي يُروَّج لها في المنصات، وتعمد بدلاً من ذلك إلى الالتزام بالانضباط الذي يمارسه الجيش الذي تعمل تحت إمرته. وقد ظهرت انتقادات أمس إلى المصباح ذاته لنشره خريطة تظهر موقع الحفل وإحداثياته قبل وصوله، وهو أمر قد يتبعه الناس في ظروف عادية، لكن في مثل هذه الظروف الاستثنائية يعد هفوة أمنية تعرض حياة كثيرين للخطر.

حتى كتابة هذه المقال لم يكن قد صدر بيان رسمي مفصل عن الهجوم والجهة الفاعلة، لكن معظم أصابع الاتهام أشارت إلى «قوات الدعم السريع»، لأنها هددت، في مناسبات عدة، بنقل الحرب شمالاً، والعملية تخدم هذا الهدف. الأمر الآخر أن «قوات الدعم السريع» بات لديها ثأر مع «كتيبة البراء» التي ظهرت في كثير من الهجمات على مواقعها، واستهداف مناسبة يحضرها قائد الكتيبة وعدد من منسوبيها يحقق لها نصراً إعلامياً من ثلاث زوايا؛ الأولى أنها وجَّهت ضربة لهذه الكتيبة، والثانية أن الهجوم كان في عطبرة بمعنى وصول يد «الدعم السريع» إلى هدف كبير في الشمال، ومركز عسكري مهم، والثالثة الترويج لما تردده دعايات «قوات الدعم السريع» بأن حربها هي ضد الكيزان والفلول وكتائبهم.

إضافة إلى ما سبق، فإن الهجوم لا يمكن فصله أيضاً عن الحملة الواسعة التي سبقته وحاولت الترويج لكلام عن دخول «داعش» وجماعات «جهادية» أخرى في الحرب والمشاركة في القتال، وهي حملة هدفها تشويه صورة الجيش السوداني، وكذلك التشكيك في المقاومة الشعبية التي انطلقت في كثير من أرجاء البلاد للمشاركة في المجهود الحربي وحماية الناس لمناطقهم وممتلكاتهم وأعراضهم. وكان لافتاً أن هذه الحملة ترافقت مع التقدم الميداني الكبير الذي حققه الجيش في العاصمة، وأكمل خلاله استعادة وتأمين معظم مناطق أم درمان، لينطلق بعدها نحو عمليات أخرى أوسع في الخرطوم وبحري، مع استعدادات واضحة لمعركة استعادة الجزيرة.

وضمن هذه الحملات حاولت بعض الأصوات أمس الترويج لمزاعم عن أن الجيش هو الذي نفذ الهجوم بالمسيّرة على تجمع الإفطار، وربط ذلك بتصريحات الرجل الثاني في قيادة الجيش، الفريق شمس الدين كباشي التي دعا فيها قبل أيام إلى ضرورة ضبط المقاومة الشعبية وإبعادها عن التسييس. هذه الأصوات تحاول الترويج أيضاً لكلام عن وجود خلافات في قيادة الجيش، لا سيما بين الفريق كباشي والفريق ياسر العطا مساعد القائد العام الذي تحدث بحماسة عن المقاومة الشعبية في كل خطاباته الأخيرة، وهي مقاومة يشارك فيها آلاف السودانيين من مختلف الانتماءات والخلفيات، خلافاً لمحاولة البعض تصويرها وكأنها كتائب من المتطرفين أو ذراع للإسلاميين. الحقيقة أنه ليس هناك ما يدل على وجود خلاف في صفوف قادة الجيش بشأن نفرة المقاومة الشعبية وأهميتها في مساندة الجيش بهذه الظروف، كما أنه لا خلاف حول أهمية وضرورة تنظيم هذه المقاومة، بحيث تكون تحت إمرة الجيش وتعمل وفق توجيهاته. فقادة الجيش أكدوا أنهم تعلموا الدرس، ولن يكون هناك أي سلاح مستقبلاً خارج سيطرة القوات المسلحة.

عملية المسيّرة الانتحارية تبقى محدودة الأثر من المنظور العسكري، لكنها، ومن واقع قراءة حملة التفسيرات والتأويلات التي سبقتها وأعقبتها، توضح أن الحرب النفسية والإعلامية تزداد شراسة، على أعتاب دخول السنة الثانية للحرب، وفي ظل التقارير عن أن الجيش يوسع مناطق سيطرته في العاصمة، ويستعد لمعركة استعادة ولاية الجزيرة.