فيما تتوارد الأنباء من تل أبيب والقاهرة والدوحة وواشنطن وعواصم أوروبية، يوما عن تحقيق تقدم في المفاوضات من أجل عقد صفة تبادل للأسرى ووقف موقت للنار بين إسرائيل و"حماس"، ويوما عن تعثرها، رفع الجيش الإسرائيلي من وتيرة وحشيته خلال الأيام، فدمر "مجمع الشفاء" الاستشفائي بعد عملية استمرت أسبوعين في داخله قضى فيها على كل الموجودين من مرضى وكادر طبي وتمريضي وإداري، قبل أن يحرقه ويخرجه نهائياً من الخدمة. ولم يوفر هذا الجيش المنظمات الإنسانية العالمية، فقصفت طائراته مجموعة إغاثة دولية من "المطبخ العالمي المركزي" موقعة أفرادها من جنسيات غربية مختلفة قتلى. كل ذلك تحت أنظار العالم الذي يستنكر لفظياً ولا يفعل شيئاً عملياً على الأرض لوقف المجزرة المستمرة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مكتفيا بانتظار نتائج التحقيقات التي تجريها اسرائيل نفسها بالجرائم التي يرتكبها جيشها يوميا.

يعيش أهل غزة معاناتهم وحدهم، ربما يعلمون بما يجري حولهم وربما لا يعلمون، لم يعودوا يملكون ترف الاتصال والتواصل، وربما لا يريدون ذلك أصلاً. لعلهم ينتظرون مفاجأة تأتيهم في ليلة قدر أو خبراً "سعيداً" يبدد قلقهم من اجتياح إسرائيلي محتمل لآخر معاقلهم في رفح، وهو احتمال ما زال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصراً عليه رغم أنف كل العالم.

الناظر إلى شمال غزة ووسطها من فوق عبر صور الأقمار الاصطناعية لا يجد إلا أطلال بنايات كأنما مر دهر عليها وهي مهجورة لا حياة فيها ولا من يحيون. صور تشبه صور هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين اللتين محتهما من الوجود قنبلتان ذريتان أميركيتان أمر الرئيس هاري ترومان بإلقائهما ليسرع نهاية الحرب العالمية الثانية التي استمرت طويلاً، وليجرب السلاح الفتاك الجديد وليرعب العالم بقوة بلاده التي لا تدانيها قوة. المشهد نفسه تقريباً في غزة وفاعلية القذائف والصواريخ التي استخدمتها إسرائيل حتى الآن ربما تفوق قدرتها التدميرية قوة القنبلة الذرية الأميركية الأولى.

كان إلقاء القنبلتين الذريتين كافياً لفرض الاستسلام على اليابان، وخروجها من الحرب إلى جانب حليفتها ألمانيا النازية، لكن تدمير غزة لم يدفع أهلها إلى الاستسلام، في ظاهرة نادرة في الحروب، وهذا ما يجعل الحرب تطول أكثر مما كان متوقعاً لها إسرائيلياً وعربياً ودولياً.

ما كان أشد المتشائمين في إسرائيل يعتقد أن الحرب ستمتد إلى ما لا يمكن التكهن به، لم تخض إسرائيل حرباً كهذه من قبل، كل حروبها كانت أقصر من ذلك بكثير، وبعضها كانت حرب أيام فقط.

كأن حرب غزة تبدأ اليوم. فر الفلسطينيون من الشمال إلى الوسط ثم تكدسوا في الجنوب في رفح في مخيمات وغرف تنعدم فيها ظروف الحياة الطبيعية، بعدما أمضوا شتاءً قاسياً بين مطر السماء وطين الأرض ورطوبتها، جوعى وحفاة وعراة ومرضى موجوعين وأمواتاً يُدفنون بأكفان وبلا أكفان وفي قبور بلا شواهد، وما فائدة الشواهد إذا كانت الدبابات ستمر عليها غداً؟

غزة هي الآن رفح، العالم كله مشغول برفح، هذه البقعة المحدودة المساحة في القطاع الصغير الذي لا تتعدى مساحته الـ395 كيلومتراً مربعاً. تخيل أنك تقف على بناء مرتفع قليلاً في رفح فإنك ترى كل شيء فيها. ما تبقى من أبنية ومخيمات من صفيح وكرتون ونايلون وفراغات معلبات وقوارير مياه بلاستيكية، ترى حتى الناس المتعبين الصامتين على ضيمهم وانكسارهم وعذابهم، المرميين على حواف القبور بانتظار أن تنقضّ عليهم طائرة "إف-35" أو مسيّرة متخفية أو صاروخ أطلقته بارجة أو غواصة.

يقف العالم كله على "خاطر" نتنياهو ليقنعه بعدم غزو رفح. يقدم له جو بايدن كل السلاح اللازم ليخوض حرباً، ليس فقط ضد حركة "حماس" المسلحة تسليحاً يعتبر بدائياً قياساً بما تملكه إسرائيل وبما يصل إليها من دول الغرب علناً وسراً، بل ليخوض حرباً ضد المحور بأكمله، لكن نتنياهو يصر على خطته الأولى غير عابئ، لا بأميركا ولا بأوروبا ولا بالعالم كله، ما زال مصمماً على استمرار المجزرة حتى القضاء نهائياً على "حماس" وتحرير الأسرى، أياً كان الثمن وأياً كانت التداعيات. هذه حرب "أما قاتل أو مقتول".

إذا هاجمت إسرائيل رفح، فلن يبقى حجر على حجر فيها، وربما لن يبقى بشر، سيدافع المقاتلون حتى الموت، ويموت الكثير من المواطنين الذين لن يعود لديهم لا مأكل ولا مشرب ولا دواء ولا مستشفى... لن يرسل العالم قوة لتوقف الجيش الإسرائيلي عند حده، ولن يصدر مجلس الأمن قراراً بإدانة صريحة لإسرائيل ووقف الحرب تحت البند السابع، سيظل جو بايدن يردد معزوفته المعروفة بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية وتأمين خروج المحاصرين ومنع كارثة إنسانية، وكأن ما حصل حتى اليوم ليس كارثة إنسانية.

إذ تصر إسرائيل على حرب رفح فإنها تضع العالم كله في الزاوية، فإما يبقى صامتاً وإما ينتفض لإنسانيته، الكلام الإنشائي ما عاد ذا جدوى بعدما أظهر نتنياهو عدم اكتراثه بنداءات العالم وبمحاكمه الدولية وقرارات مجلس أمنه وأممه المتحدة، وهذا ديدن إسرائيل منذ 1948. نتنياهو أيضاً ظهره إلى الحائط، فإن تراجع سيسقط ويحاكم بجرائم حالية وسابقة، ولذلك لا مفر له، كما يعتقد، من الدفع إلى الأمام فربما تنقذه الأيام.

الأيام القليلة القادمة ستحمل مزيداً من التطورات التي ربما تفاجئ الجميع.