لن تربح إسرائيل الحرب، لا ضد "حماس" ولا ضد "حزب الله"، فالتنظيمات المسلّحة يستحيل أن تخسر، فهي تعتبر نفسها منتصرة حتماً، بمجرد أن تُظهر قدرتها على إبقاء قيادي واحد برفقته رهط من المقاتلين على قيد الحياة!

وهذا النوع من الانتصار يمكن لكل من "حزب الله" و"حركة حماس" توفيره بسهولة، فمثلهما مثل الأنهر الأميركية التي ما إن تختفي في منطقة حتى تظهر في منطقة أخرى!

وحدها الدول يمكن أن تخضع لمعادلة "الربح والخسارة"، لأنّها تصبح هياكل عظمية بمجرد حرمانها من قدراتها العسكرية التقليدية ومؤسساتها وارتفاع منسوب الخطر على شعوبها.

وما يصح على "حزب الله" و"حركة حماس" يصح على "الجمهورية الإسلامية في إيران"، فالدولة الإيرانية يمكن أن تخسر، ولكنّ "الحرس الثوري الإيراني" الذي هو الدولة العميقة في إيران، يستحيل أن يخسر!

ثمة عقل "رجعي" في إسرائيل، يتعاطى مع التنظيمات والأنظمة التي تسلّم دولها لتنظيمات حديديّة، على أساس "تقليدي"، حيث هناك ميزان يقيس الأرباح والخسائر، وهاجس توفير رفاهية الشعوب، وخوف من ثورة في الشارع ومساءلة في صناديق الاقتراع!

في إسرائيل، هناك أحزاب، موالاة ومعارضة، جماهير تتظاهر، انتخابات على الأبواب، اقتصاد، ومساءلة، وكذلك الأمر لدى حلفاء إسرائيل الأساسيين. وبهذا المعنى، فإنّ نفس إسرائيل قصير. "جنرال الوقت" يعمل ضدها!

أعداؤها ليسوا كذلك، فهم لا يقيمون اعتباراً لشيء إلّا للحرب. المدنيون ليسوا مسؤوليّتهم بل هم عملتهم النادرة التي يستقطبون بها الرأي العام المعادي للدماء، والاقتصاد ليس في حساباتهم، وصناديق الاقتراع تملؤها لمصلحتهم معادلة الترغيب والترهيب، والحساب ممنوع والمساءلة مبتدأ بلا خبر!

كيف يمكن أن يخسر كل من يعتبر أنّ خسائره البشريّة نعمة سماوية، فيما الخسائر المادية التي يُلحقها بعدوه " نصر من الله"؟

وكيف يمكن أن يخسر من يعتبر أنّ تدمير غزة مجرد تجربة بسيطة من قائمة التجارب التي خضع لها النبي أيّوب، فيما يتعاطى مع عاصفة طبيعية ضربت دبي الإماراتيّة على أساس أنّها "عقاب إلهي"؟

تستطيع إسرائيل أن تدمّر لبنان وتهجر شعبه وتجتاح قطاع غزة وتسحل سكانه وأن تفعل ما تشاء في إيران، ولكنّها، حتى وهي تصد أكبر هجوم بالصواريخ والمسيّرات بنجاح شبه حاسم، وتصفّي مئات المقاتلين في جنوب لبنان، وتقضي على قادة كبار في "فيلق القدس"، وتحوّل قطاع غزة إلى إقليم غير قابل للحياة، تجد نفسها بصورة الخاسر أمام المصرّين على رفع علامة النصر!

لم تشن "حركة حماس" حرب "طوفان الأقصى" بدعم من "جبهة المقاومة" إلّا يوم استكمل الجميع عدّة الصمود التي يحتاجون إليها، ففي غزة جرت تصفية القوى المنافسة لـ"حماس". "حركة فتح" أصبحت، في الواقع، مجرّد وجهة نظر. وفي لبنان، أنهى "حزب الله" قدرات جميع من يمكنهم أن يقفوا في وجهه، وأدخلهم في بريّة حيث يصرخون فلا يسمع أحد أصواتهم، وحيث يتقاتلون ولا أحد يُحصي خسائرهم، وحيث يتنافسون على فتات المائدة. وفي سوريا، بقيت عائلة الأسد وانتهت الدولة، وأصبح ميدانها مسرحاً لإيران وتنظيماتها ولعصابات تهريب البشر والمخدرات والأدوية المزوّرة والسلاح والعملات السوداء. وفي إيران، انتهت وظائف الدولة مع الانهيار الاقتصادي والمالي وبقي "الحرس الثوري الإيراني"، وفي اليمن دخل هاجس إقامة الدولة في سبات عميق وارتاح "الحوثيون" إلى سيطرتهم، وفي العراق تمّ توزيع الأدوار بين دولة مفيدة لإيران وحشد شعبي يحركه حرسها الثوري!

"فلاسفة السياسة" الذين لمعت أسماؤهم يعشقون استعمال العبارات الكبيرة مثل "صدام الحضارات، "نهاية التاريخ"، "سقوط الغرب"، "انتفاضة الشرق". في الواقع، هم لا يلتفتون إلى أنّ العالم يعود إلى "حقبة الغابة"، حيث لا صوت يعلو فوق ضجيج "الفوضى": الحرب في الشرق الأوسط، تُلهي الجميع عن متابعة كوارث حرب الاستنزاف بين المسيحيّين في أوكرانيا، وصراع التجويع بين المسلمين في السودان، وصراخ البطون الخاوية في سوريا "المفيدة"، وعويل الأقليات في كل حدب وصوب، وضياع عشرات ملايين النازحين في أعماق البحر وعلى أرصفة الأمم!

لن تربح إسرائيل في هذه الحرب، ولكنّها - وهنا الطامة الكبرى - لن تخسر. لقد دخلت والمنطقة في أخطر أنواع الحروب، أي تلك التي لا تنتهي، لأّن الأقوى فيها لا ينتصر، والأضعف فيها لا يُهزم!

وهذا النوع من الحروب يستولد الكوارث، لأنّه يُعلي صوت المتطرّفين في كل مكان، ويُنهي الأصوات العاقلة.

تخيّلوا، مثلاً، أنّ المؤيّدين للفلسطينيين، يهددون بتخسير الرئيس جو بايدن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة منافسه القوي جداً دونالد ترامب الذي كان أوّل رئيس أميركي ينفّذ وعد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واغتال لمصلحتهم القائد التاريخي لـ"فيلق القدس" الجنرال قاسم سليماني؟

ماذا يمكن أن يستنتج المراقب، وهو يرى هذا التقاطع المذهل، بين الإسرائيلي اليميني واليساري الأميركي والمتطرف المسيحي والشيعي والسني والإيراني؟

وحده العقل المتطرّف لا يهتم إن كان في ما يُقدم عليه إنّما يهرب "من تحت الدلف إلى تحت المزراب". همّه الوحيد أن يبقى صاخباً، مقاتلاً وقاتلاً!

في ظل هؤلاء، وفي زمن "القرية الكونية"، قد تمتد بقعة الزيت إلى كل مكان. راقبوا ما يحصل في أستراليا التي تقع في أسفل الكرة الأرضية، تدركوا!

من يضع حداً لهذا الجنون، في ظل "هشاشة" العقلاء وتشتتهم و"تفاهة" المعتدلين وهروبهم إلى... "العلبة المريحة" التي أصبحت نسخة متطورة لذاك الكهف الأسطوري الشهير؟