.. كان «جان جاك روسو» 1712-1778 محظوظاً بطراز رفيع من النساء القارئات: دوقات، وكونتيسات، وسيدات مجتمع وصالونات أدب وفنون في باريس الأرستقراطية، وهو في (الاعترافات) يروي استقبال أميرة (مدام دو تالمون) لصدور روايته (جولي) وقراءتها للرواية= على نفس واحد= كما يقولون (.. صدر الكتاب في أوّل أيام الكرنفال، فحمله إلى الأميرة دو تالمون بائع الكتب الجوّال، وكان ذلك في يوم حفلة راقصة لليالي الأوبرا، فلمّا تعشّت، دَعَت بمن ألبسها وهيأها للسهره الراقصة، فبينما كانت تنتظر حين الذهاب، جعلت تقرأ الرواية الجديدة، فلما انتصف الليل، أمرت بإعداد خيلها، ثم واصلت القراءة، فقيل لها إن الخيل قد أُعدّت، فلم تجب قط، حتى إذا رآها الخدم قد ذهلت عن نفسها، أقبلوا ينبّهونها أن الساعة قد بلغت الثانية من الصباح، فقالت: «لا لزوم بعد للعجلة».. وعادت إلى القراءة، ثم وقفت ساعتها، فقرعت تسأل أن كم الساعة، فقيل لها إنها الرابعة، فقالت: «إذاً تأخرنا عن الحفلة، فليكفّوا عن الخيل».. ثم دَعَت بمن خلع عنها، فسلخت ما بقي من الليل وهي تقرأ.

لم يكن روسو محظوظاً هكذا بطبقة رفيعة من القارئات اللواتي يفضلن مطالعة الكتب على الحفلات، بل كان أيضاً يجني ثروات من كتبه. كان يعطيه الناشرون 1000 فرنك على المخطوطة، وتراكم عنده مال بعشرات الآلاف من الفرنكات.

عدت إلى هذا المقطع من اعترافات صاحب (العقد الاجتماعي)، وفي البال: ماذا تكتب المرأة في باريس الآن، وماذا تقرأ؟.. لا بل في بلدان كثيرة من العالم تطبع فيها الكتب اليوم بالملايين، وهناك شركات عابرة للقارات في صناعة الكتاب، وشركات أكثر شراسة في التسويق والتوزيع، لكن، ينقص المشهد حفلة أوبرا، وسيدة تلغي كل مواعيدها الباذخة، وتعكف على القراءة حتى إغلاق الكتاب.

ظهرت في الغرب خلال فترة ممّا يمكن أن تسمّى (دورات الرواية).. موجة الرواية الزهرية، هكذا أطلقت عليها الصحافة الثقافية الأوروبية، وهي رواية زهرية لأنها محشوة بالمغامرة الحسية، ومبلّلة بالعطر، ثم ظهرت موجات تالية معروفة أيضاً للقارئ العربي: رواية الجريمة، الرواية البوليسية، روايات الغموض، وإجمالاً رواية العنف..

مثل تلك السيدة التي ظلت تقرأ حتى الرابعة صباحاً، ثم تنهّدت، وقالت: ها قد تأخرنا على الحفلة لم تعد موجودة الآن لا في باريس ولا في نيويورك، أما في بلادنا العربية، فلا مؤشر إحصائياً دقيقاً على كم من الكتب تستهلك المرأة، وما نوعية تلك الكتب..

اليوم في الوطن العربي يقرأ جيل من الشباب والشابات. جيل كتب الورق، والكتاب الإلكتروني، وكتاب مكتبة المدينة والجامعة والعائلة.

دورة جديدة من القراءة العربية حتى الرابعة صباحاً، بل لا حاجة إلى مضيعة الوقت الذي يعادل الذهب بين الكتب.. هذا هو تحدي القراءة العربي..