بين مشهدين سياسيين تابعهما العالم في اللحظة نفسها، تبدت تساؤلات ومفارقات.
في المنامة، عقدت قمة عربية اعتيادية بظروف استثنائية، خيمت عليها أخبار الإبادة والتجويع بقطاع غزة، ومخاوف ارتكاب مجازر أبشع بحق مليون ونصف المليون نازح، إذا ما جرى اجتياح رفح الفلسطينية.
وفي لاهاي، التأمت جلسة أخرى لمحكمة العدل الدولية، تنظر بطلب من جنوب إفريقيا اتخاذ تدابير احترازية طارئة لوقف حرب الإبادة على غزة، ومنع اجتياح رفح.
أفضل ما ينسب للقمة العربية، ارتفاع منسوب لغة الخطاب فوق ما هو معتاد، لكن لم تصحبه مواقف وسياسات قابلة للتنفيذ والتأثير في حسابات وموازين مسارح القتال والدبلوماسية.
القمة، طالبت في بيانها الختامي إلى إصدار دعوة جماعية لعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة، لحل القضية الفلسطينية بهدف إيجاد مسار سياسي يؤدي إلى حل الدولتين، كما ودعت إلى نشر قوات حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية إلى حين تنفيذ حل الدولتين، والرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين.
في نفس اللحظة، بدا الكلام القانوني أمام محكمة العدل الدولية محدداً ومنضبطاً، أهدافه واضحة وحججه ماثلة.
إذا ما صدر قرار من العدل الدولية بوقف الحرب، فهو إنجاز له تداعياته الكبيرة على المقاربات الدولية من الحرب على غزة.
بدت جنوب إفريقيا مستعدة للمضي قدماً في معركتها ضد نظام الفصل العنصري بفلسطين المحتلة، جولة بعد أخرى، رهاناً على دعم شعبي عالمي غير مسبوق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بمنع اجتياح رفح.
كيف وصلنا إلى هنا؟ لم يحدث ذلك بين يوم وليلة.
لم يكن هناك تنبه حقيقي في العالم العربي إلى حجم الخطر ومواطنه حتى داهمته نكبة 1948 وهزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين.
تحت صدمة النكبة، جرت مراجعات واسعة لأسبابها، تطرقت لأوجه الخلل في بنية المجتمعات العربية بالفحص والتشريح، وانتقدت الفكر العربي على نحو غير مسبوق، نشأت حركات سياسية من فوق أنقاضها، وجرت تغييرات جوهرية بنظم الحكم.
لم يعد هناك شيء على حاله والتغير شمل كل ما كان يتحرك في العالم العربي.
كانت ثورة 23 يوليو 1952 أحد تجليات ما بعد النكبة.
بخط يده كتب الضابط الشاب «جمال عبدالناصر» في مذكراته الشخصية تحت وهج النيران في فلسطين: «لم تكن حرباً، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط قتال، ولا استكشافات، ولا معلومات!».
تبدت المفارقة التراجيدية في القصة كلها أن بعض ما انتقده عام 1948 تكرر معه عام 1967.
كان ذلك جرحاً لم يفارقه حتى رحيله، رغم حرب الاستنزاف وتضحياتها وإعادة بناء الجيش من تحت الصفر ليحرر سيناء بالقوة.
قاتلت مصر حتى تمكنت من عبور الهزيمة العسكرية في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973 غير أن نتائجها السياسية تناقضت مع بطولاتها العسكرية، وأن الذين عبروا على الجسور لم يكونوا هم الذين جنوا جوائزها.
كان أخطر ما تمخضت عنه اتفاقية «كامب ديفيد» عزلة مصر عن عالمها العربي، وتآكل أوزانها في إقليمها وقارتها وعالمها، وسيادة لغة تستهجن الانتماء العربي، أو أي دفاع عن القضية الفلسطينية.
بدت تلك نكبة سياسية كاملة أسست لغياب أية مناعة في العالم العربي. كانت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 إحدى تبعات الخروج المصري من الصراع العربي الإسرائيلي.
احتلت بيروت من القوات الإسرائيلية عام 1982، لكنها نهضت لتقاوم بسلاح أبنائها في حروب تتالت حتى الآن.
وكان الاجتياح العراقي للكويت مطلع تسعينات القرن الماضي مصيدة أخرى أذنت بانهيار النظام الإقليمي العربي وعجزه شبه الكلى عن مواجهة تحدياته. أفسح المجال تالياً لاحتلال بغداد عام 2003.
بانهيار مشرق العالم العربي، دخل الأمن القومي كله في انكشاف تاريخي، توارت خلفه القضية الفلسطينية، وبات مطلوباً التخلص من صداعها. ثم جاءت اتفاقية «أوسلو» لتعلن نكبة أفدح بآثارها السلبية على وحدة الشعب والقضية.
في كل أزمة مصيدة، وعند كل منحنى نكبة. اختلت المعادلات والحسابات حتى وصلنا إلى احتلال الجانب الفلسطيني من معبر رفح بالدبابات وطرح سيناريوهات متعددة لإدارته تحت الحماية الإسرائيلية في خرق صريح لاتفاقية «كامب ديفيد»!
كان الرفض المصري حاسماً والدعم العربي حاضراً في هذه القضية، غير أن ذلك لا يكفي لردع التغول الإسرائيلي.
كأي اتفاقية بين طرفين، الالتزام لا بد أن يكون متبادلاً.
التهاون في لغة الخطاب يغري بخرق كل القواعد والاستهانة بكل الاعتبارات.
إذا ما كانت هناك قيمة تاريخية للسابع من أكتوبر 2023، فهي إحياء القضية الفلسطينية من تحت رماد النسيان المخيم والتراجع الفادح.
لو أن العالم العربي على شيء من التماسك والمنعة لأمكن دعم وإسناد أهل غزة بأكثر من البيانات، ودعوة الآخرين في العالم أن يفعلوا شيئاً من دون أن نقدم نحن على أي شيء تستحقه التضحيات الهائلة، التي تبذل حتى ترفع فلسطين رأسها وتؤكد أحقيتها بتقرير مصيرها بنفسها.
التعليقات