قبل عقود، كنا ندرس في الجامعة كتاب هشام شرابي "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، وكان أحد الموضوعات قضية الإنجاب في المجتمع العربي، الذي وصفه شرابي بأنه ليس إبداعا حرا، وحفظنا ذلك وكتبناه في ورقة الامتحان دون أن نعي أبعاده ومدلولاته التطبيقية، فبعض الإدراك يأتي متأخرا مع تراكم الخبرات والتجارب، المهم أننا نجحنا و "توظفنا"

إذا أمعنا النظر في برنامج المواهب العالمي Got Talent بنسخته المحلية في كل دولة، نجد أن المواهب العربية لا يمكن مقارنتها مع أسوأ موهبة أوروبية أو أمريكية، وهي فرصة للتأمل، فالفرق هائل، فالمواهب الأوروبية والأمريكية مذهلة حتى أن المشاهد يظن أنها نزلت من السماء، ما بين الأصوات المذهلة والعزف الماهر والرقص المنفلت من الجاذبية والحركات الأكروباتية حتى بين كبار السن، إنهم يذكرون بأغنية rhythm nation لجانيت جاكسون من حيث الإبداع والدقة والإيقاع والتناغم والانسجام خاصة في الأعمال الجماعية التي تؤديها فرق وليس أفراد، حيث يدخل إلى المسرح مجموعة من الأفراد ويصنعون إعجازا مذهلا في دقته وانفراده وأصالته. وفي المقابل، يدخل "الموهوب العربي" ليغني فقط فإذا كان صوته الذي وهبته له الطبيعة جيدا يفوز وإلا فيعود أدراجه، أهذا هو الفن؟ ألا يوجد غير الغناء؟

نعود إلى هشام شرابي، قدم شرابي فكرته عن الإبداع الحر في الإنجاب، والتي رأى فيها أن العرب ينجبون اضطرارا، فالرجل يريد أن ينجب ولدا يحمل اسمه والمرأة تريد أن تنجب لكي تثبت في بيتها وتتجنب الطلاق أو الزواج الثاني، وكلاهما يحبذان الذكور لأن الذكر في ثقافتنا حر في ماله وليس لأحد سلطة عليه، فينفق على والديه في شيخوختهما، أما الأنثى فهي مسلوبة الإرادة. لذا فإنهم يكثرون من الإنجاب ضمانا لمستقبلهما بصرف النظر عن وضعهما المالي وملائمة الظروف، فيعاني الصغار ما يعانون من الحرمان المادي والمعنوي، ومنهم من ينجح في شق الطريق إلى المستقبل ومنهم من يفشل ويعاني طوال حياته، وتساهم الثقافة الشعبية في تعزيز هذا الاتجاه كما في مقولة "الرزق على الله" ولا أعرف إذا كان منهم من استيقظ صباحا فوجد كيسا مليئا بالدراهم عند بابه!!!!

انجاب الإبداع الحر يعني أنه ليس إنجابا اضطراريا لضمان المستقبل، فالوالدان يجب أن ينجبا لمصلحة الصغير وليس لمصلحتهما، فهذا إنسان وليس نعجة، يحتاج إلى رعاية مادية ومعنوية، خصوصا وأن هذا العصر يتسم بالشح في كافة الموارد وسوق عمل لا يرحم والبقاء فيه للأصلح، ويترتب على الوالدين تسليح أبنائهما بكافة المهارات التي يتطلبها سوق العمل، إذ لا يكفي التخصص، ولا بد من مهارات اللغات والحاسوب والقدرة على التواصل والسمات الشخصية المرنة.... إلخ. والشاب الذي لا يجد فرصة قد يهاجر وقد ينحرف، وقد ينتحر.

إن الآباء يرتكبون خطأ كبيرا بحق أبنائهم، فهم ينجبون من منطلق أناني جدا، ويتوقعون منهم أن يبروهم في الشيخوخة مستندين إلى أحاديث وآيات أساءوا فهمها، فتلك الآيات والأحاديث لا تعطي الوالدين قدسية بصرف النظر عن سوء تربيتهما لأبنائهما، بل لا بد من قيامهما بدورهما الكامل إذا ما أرادوا رد الجميل من الأبناء. وإنجاب الإبداع الحر يعني أن الوالدين لديهما كل ما يلزم لإنشاء أسرة كالمال والتعليم والانسجام والاقتناع الكامل ببعضهما ورؤاهما المشتركة فيقومان بالإنجاب بشكل حر لا يدفعهما إليه سوى تأسيس أسرة سعيدة والقيام بواجبات الصغار على الوجه الأكمل، ومساعدة الأبناء في شق طريق المستقبل، من خلال العلم واكتساب المهارات وتطوير المواهب.

هذا هو السبب وراء انخفاض جودة المواهب في برامج المواهب العربية وارتفاعها في البرامج الأوروبية والأمريكية وحتى الصينية واليابانية. فنحن ليس لدينا مواهب ويقتصر النشاط على الغناء لمن وهبه ربه صوتا حسنا.