مقالات كثيرة نشرت ودراسات عديدة صدرت حول خطر الذئاب المنفردة في التعامل مع الارهاب، ولكن يبدو أن هذه الظاهرة لم تأخذـ حتى الآن ـ حقها من الاهتمام على الصعد الفكرية والأمنية والثقافية والتوعوية. فبعد اعتداءات نيس وألمانيا، جاء اغتيال السفير الروسي لدى تركيا، ثم محاولة إرهابي مهاجمة متحف اللوفر في باريس مؤخراً، للتأكيد على أن التعامل مع ظاهرة الذئاب المنفردة يستحق مزيد من التعاون الدولي.

في تعليقه على قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن حظر اللاجئين، أشار الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريزإلى أن قرارات الرئيس الأمريكي لن تفلح في التصدي للإرهاب، بل ربما تسهم في تفاقمه، وتحدث عن غوتيريز عن نقطة في غاية الأهمية وهي أن الإرهابيين لن يصلوا إلى الولايات المتحدة أو غيرها من الدول التي يستهدفها الإرهاب في عملياته الاجرامية بجوازات سفر الدول التي حظر ترامب اللاجئين منها، بل يمكن أن يحملوا جوازات سفر دول لا تشوب سمعتها شائبة في ما يتصل بالعلاقة مع تنظيمات الإرهاب.

ما فهمته من تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة يشدني إلى أمرين مهمين أولهما أن هناك انخراط غير مسبوق في تنظيمات الإرهاب لرعايا دول غربية متقدمة مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا، بل والولايات المتحدة نفسها، حيث تشير سجلات الوكالات المتخصصة إلى أعداد كبيرة من رعايا دول أروبية ينشطون ضمن صفوف "داعش" وغيرها في سوريا، وبالتالي فالمسألة لا علاقة لها بدول أو مناطق جغرافية أو أنظمة سياسية بعينها. والأمر الثاني أن الذئاب المنفردة تعد استراتيجية بالغة الخطورة ولا يمكن التعامل معها من خلال إجراءات أمنية فقط مهما كانت شدة وصرامة هذه الإجراءات.

لدينا في حالتي اغتيال السفير الروسي لدى تركيا ومحاولة الاعتداء على متحف اللوفر في باريس نموذجين لحالتين ليس لهما سوابق أمنية، بل إن حالة المصري المتهم بمحاول الاعتداء على اللوفر تستحق بمفردها وقفة متأنية، لأن الشاب جاء من خلفية المجتمعية لا غبار عليها، فوالده لواء شرطة سابق في الأمن المصري، وشقيقه ضابط أمن بالداخلية المصرية، ولديه شقيق آخر يعمل بجهاز رسمي مصري وصف بأنه جهاز "سيادي". 

وفي واقعة اغتيال السفير الروسي لدى تركيا ضٌبط لدى الإرهابي نحو مائتي ألف دولار وثلاثة فتيات يعملن في خدمته، وهذا بحد ذاته كفيل بتفسير جزء كبير من دوافع الإرهابيين، وهي الاغراءات المالية الضخمة، وهذا أمر قد لا يكون له علاقة كبيرة بالأدلجة الفكرية أو الصلة التنظيمية، بل عمل عصابات تقليدية ومرتزقة تستخدمهم تنظيمات الإرهاب في تحقيق أهدافها!!

إشكالية الذئاب المنفردة انها تعمل وفق نسقين متوازيين أحدهما قائم على تحريك تنظيمات الإرهاب لعناصر مؤطرة تنظيمياً وساكنة حركياً، أو ما يعرف بالخلايا النائمة، ودفعهم لارتكاب جرائم محددة بعد تزويدهم بالمال والسلاح، أوتكفي هذه التنظيمات بمجرد التخطيط وتزويدهم بالأموال اللازمة لذلك، حيث اتجهت تنظيمات الإرهاب مؤخراً إلى جرائم لا تحتاج إلى أسلحة تقليدية، بل على "أدوات جريمة" مبتكرة مثل استخدام الشاحنات في قتل الحشود ومن خلال اختراقها والتسبب في كوارث بشرية كبيرة كما حدث في اعتداء مدينة "نيس" الفرنسية. والنسق الثاني يتمثل في ارتكاب جرائم إرهابية من جانب عناصر متعاطفة مع الفكر الإرهابي ولكنها غير مؤطرة تنظيمياً، وهذه العناصر هي الأخطر لاتساع دائرة التعاطف وصعوبة اكتشافها عبر الآليات والطرق التقليدية، بل إن البحث ورائها يجعل دائرة الاشتباه تتسع بدرجة يصعب تخيلها، فكل شاب سافر إلى دول معينة أو كتب بصيغ معينة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو يرتدي ملابس معينة هو مرشح للتعقب والتحري عن أفكاره واتجاهاته وهذا أمر مستحيل تقريباً، بل يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، كما ان نتائجه غير مضمونة بشكل دقيق، لاسيما أن الإرهاب لم يعد يعمل وفق الطرق والآليات التقليدية، بل بات يتخفى وراء ستار يصعب اكتشافه حتى من جانب الأمنيين المتخصصين. وثمة نسق آخر يحتاج إلى مراقبة للتأكد من وجوده واستمراريته وهو التعاون بين تنظيمات الإرهاب وعناصر غير متعاطفة ولا مؤدلجة لتحقيق أهدافها وارتكاب جرائم إرهابية مقابل أموال ضخمة وغير ذلك.

اعتقد أن الإجراءات الأمنية في تعقب الذئاب المنفردة مهما كانت صرامتها وفعاليتها لن تفلح سوى في تحقيق نسب معينة من النجاح، ويبقى فشلها وارداً ومحتملاً ولو بنسب ضئيلة، ولكن المشكلة أن أي فشل يعني بالتبعية حدوث كارثة وجريمة تودي بحياة الأبرياء. ومن ثم فإن من الضروري بناء استراتيجيات حماية أفضل للدول والمجتمعات، فالفكر الإرهابي يحتاج إلى عمل على المستويات الثقافية والتوعوية والتعليمية والفكرية والإعلامية، كما يتطلب أيضاً عملاً سياسياً يتمثل في تسوية النزاعات وحل الأزمات التي تقتات عليها تنظيمات الإرهاب وتتخذ منها ذريعة لقتل البشر.

كما أن الإرهاب يحتاج أيضاً إلى استراتيجية غائبة حتى الآن، ويتطلب تعاوناً دولياً أفضل بدلاً من دعوات الانعزال والاقصاء والتهميش والحظر، التي تصدر في بعض الدول، كما ينبغي على اليمين المتطرف في الغرب أن يدرك أن دعواته المضادة للمسلمين ليست حماية لمجتمعاته بل هي هدايا مجانية لتنظيمات الإرهاب كي تتخذ من هذه الدعوات شعارات تزين دعايتها لاستقطاب المزيد من الشباب من داخل دول هؤلاء الساسة قبل غيرها!!.

ليست ابالغ حين أقول أن ظاهرة الذئاب المنفردة هي أخطر تحد يواجه المجتمعات والدول في الوقت الراهن، لأنها ترتبط ارتباطاً مباشراً بانتقالات الأفراد وحركة السياحة والسفر حول العالم، بمعنى أن عدم السيطرة على هذه الظاهرة قد يقود إلى مزيد من الصدامات بين الدول بسبب تورط رعاياها المخدوعين بشعارات الإرهاب في ارتكاب جرائم بشعة في أي دولة من دول العالم. والحل الأسوأ في التعامل مع هذه الظاهرة هو اسقاطها على الشعوب واتخاذها ذريعة لاتهام شعب بأكمله بالإرهاب، وهذه مسألة غير إنسانية ولا منطقية وتسفر عن مزيد من الاختلالات في العلاقات بين الدول والشعوب، وتسهم في نشر الأحقاد والعداوات، التي تستغلها تنظيمات الإرهاب بحرفية شديدة في توسيع دائرة نشاطها.