ما لا مندوحة عن الإعتراف بأن الإستلاب، إستلاب العقل والتعقل، إنما هو من لزوميات التديّن، ولذلك كنا قد أكدنا، فيما كتبنا سابقاً، النفي المطلق لما يوصف مجازاً، ومجاواً فقط، بالفكر الإسلامي حيث أن فكر المفكر الإسلامي ينحصر فقط بكيفية الصدوع لوصايا القرآن وهذا بحد ذاته هو المعنى الدقيق للإستلاب . ولا مندوحة أيضاً بالمقابل عن الإقرار بأن القفزة الأولى التي قفزها الإنسان إلى مجاهيل الدين، أي دين، إنما كانت بسبب التعقل في البحث عن المجهول . وهكذا كانت أولى سيماء التعقل هي التخلي عن التعقل نفسه، أي الإستلاب .

مقابل المتدينين هناك الملحدون الذين يعلنون إلحادهمبسبب رفضهم التام لأي تنازل عن التعقل وحجتهم هي أن أحداً حتى من الأنبياء أنفسهم لم يتحقق من وجود الله، والكل يعترف حتى المتدينين أنفسهم أن ليس هناك برهان علمي على وجود الله، وما الإيمان إلا وقرينته الشك .

لم يقفز المتدينون إلى مجاهيل الدين إلا لأنهم عانوا من أولى سيماء التعقل، ولم يلحد الملحدون إلا لأنهم رفضوا التنازل عن كامل التعقل . أما الذين لا هم من هؤلاء ولا من أولئك فهم الغنوصيون (Agnostics) الذين لم يعانوا من أولى سيماء التعقل كي يقفزوا إلى مجاهل الدين ولم يتعقلوا حتى النهاية كي يلحدوا، وبذلك نأوا بأنفسهم عن دائرة التعقل . ولما كانت الحيوانات محرومة من الإقتراب من دائرة التعقل فالغنوصيون قبلوا لأنفسهم أن يسكنوا في مرتبةالحيوانات .

لئن قبل الغنوصيون لأنفسهم أن يسكنوا في مرتبة الحيوانات وقد تخلوا عن العقل والتعقل في محاكمة عقيدة وجود الآلهة فلا يجوز الوقوف نفس الموقف بالنسبة للنظريات العلمية ومنها النظرية الماركسية المتكاملة . ما يثير الاستهجان حقاً هو أن الغنوصيين في مسألة العقيدة الدينية ليسوا أكثر عدداً من الغنوصيين في الموقف من الماركسية رغم أن الماركسية نظرية علمية تبحث في قوانين التطور الإجتماعي بل هي أكثر من ذلك إذ تنقل فعل القانون العام للحركة في الطبيعة إلى المجتمع واكتشاف حراكه من خلال هذا القانون . يقول الفيزيائيون أن سائر الأشياء التي للإنسان معرفة بها إنما هي أصلاً تهيؤات معينة للحركة في الطبيعة، أي أن كل موجودات الطبيعة هي من صناعة الحركة في الطبيعة وتطورها، لكن هؤلاء الفيزيائيين مع ذلك توقفوا عند التشكيلات الاجتماعية ولم ينظروا فيها محتسبين أنها من تنظيم العقل البشري وليس من فعل الحركة في الطبيعة . 

كارل ماركس الذي لم يكن فيزيائياً بل دارساً عبقرياً للفلسفة وبعد أن حصل على درجة الدكتوراه من جامعة برلين، حيث كان هيجل يدرّس علوم الفلسفة، نجح في نقل الفلسفة من دائرة المثالية والتكهنات (Speculations) المنعزلة عن الواقع المادي والبشري إلى الإرتباط الوثيق بين علم الفلسفة والواقع، وهنا قال ماركس مقولته الشهيرة .. " إشتغل الفلاسفة في تفسير العالم بينما كان عليهم أن يشتغلوا في تطويره " . تجسد هذا الإنتقال في أخطر إكتشاف عرفته البشرية ألا وهو القانون العام للحركة في الطبيعة وعنوانه " المادية الديالكتيكية " الذي هو أصل الأشياء وخالقها ؛ وقد أكد ماركس في تعقيبة على الطبعة الثانية للجزء الأول من (رأس المال) باللغة الألمانية 1873 .. " أن ديالكتيكي ليس فقط مختلفاً عن ديالكتيك هيجل بل هومناقض له أبضاً " . وغالباً ما يُساء فهم عبارة أن ماركس أوقف ديالكتيك هيجل على قدميه بدلاً عن رأسه الأمر الذي يعني تحديداً أن ديالكتيك هيجل عني قصراً بعلاقة العقل بالواقع وتطوير الديالكتيك الإغريقي القديم (Thesis, Antithesis, Synthesis) بينما ديالكتيك ماركس رحل بعيداً إلى اكتشاف القانون العام للحركة في الطبيعة وهو قانون فيزيائي بالنهاية يبحث في التناقض داخل المادة . ديالكتيك هيجل ينتفي تماماً قبل وجود الوعي البشري بينما ديالكتيك ماركس أبديّ منذ الأزل . بل إن التعقل الهيجلي وهو الإطار الذي احتوى كل ديالكتيك هيجل ليس إلا ظاهرة إنسانية عابرة لفعل القانون العام للحركة في الطبيعة الذي لا يتوقف أبداً عن خلق كل أشياء الوجود بمختلف تهيؤاتها .

إزاء هذه الحقيقة المطلقة والتي تقول أن الديالكتيك يخلق كل الطبيعة بجميع أشيائها يثور المتدينون بغضب شديد احتجاجا على نفي سلطة الله في الخلق والتكوين ؛ لكن ليعلم هؤلاء المحتجون بغضب شديد أن الاحتجاج على الحقائق غير شرعي وغير مقبول، بل هنا يُستوجب منهم الإعتراف بأنهم هم أنفسهم من أشياء الطبيعة ومن خلق قانون الديالكتيك، وليس أكثر عبثاً من احتجاج المخلوق على خالقه . الديالكتيك يقوم بالوظائف المنسوبة لله باستثناء أنه يخلق الأشياء بلا هدف ودون علم أي دون وعي وإدراك . إنه قوة فيزيائية صمّاء .

وليس أشبه بالمتدينين من متمركسي مدرسة فرانكفورت . يزعم هؤلاء المتمركسون أن الوعي الإنساني له القدرة على التحرر من نفاذ القانون العام للحركة في الطبيعة وبأن يتدخل إذاك في مجرى القانون ليغير نفاذه لمصلحة الإنسان . هؤلاء المتمركسون هم بالتالي أدنى مرتبة من المتدينين . يقول المتدينون أن الله هو سبب وجود كل الأشياء والمتمركسون من مدرسة فرانكفورت يدعون أن العقل البشري قادر على خلق بعض الأشياء لم تكن موجودة في مسار القانون العام للحركة في الطبيعة . لقد تعرض ستالين لهذه المسألة في كتابه "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" وقال .. يمكن للعقل البشري أن يستشرف نفاذ قانون الطبيعة فيضيف أشياء من عنده لا تتعارض مع نفاذ القانون كبناء سد على النهر لاجل توليد الكهرباء دون تغيير مجرى النهر . 

الماركسية علم وليست عقيدةمن الغريب حقاً كيف يُهيأ لهؤلاء القوم، متمركسي مدرسة فرانكفورت، أن يخلق ديالكتيك الطبيعة العقل البشري ليعطله، يعطل ديالكتيك الطبيعة نفسه . ليس هذا إلا إبتذال لكل عقل وتعقل، بل الأحرى هو النشاط الأحدث لتعطيل نفاذ الديالكتيك الذي ترسمه الماركسية . وفي ألمانيا موئل الخيانة لطبقة البروليتاريا هناك ليس فقط الحزب الإشتراكي الألماني الموبوء بالخيانة بل حتى هناك أعضاء ذوو شهرة في الأممية الثانيةمثل كاوتسكي وبيرنشتاين كان لهم دور مشهود في خيانة البروليتاريا . بين الفينة والأخرى وكلما علا شأو النظرية الماركسية واتسعت دائرتها تجدد هذه المدرسة الخيانية نشاطها وتبتدع مقولات ونظريات جديدة تأخذ بعقول مثقفي البورجوازية الوضيعة وبعض متمركسيها الذين جعلت منهم الدوائر الغربية الرجعية أساطين الماركسية مثل الدكتور المصري سمير أمين وقد تأسست كل هرطقاته على مقولات مدرسة فرانكفورت وخاصة تحرير العقل من سلطة قانون الديالكتيك وما يدعى بالنظرية النقدية التي تستغني عن الحد الثوري في سياق التطور وعن نظرية المعرفة في الماركسية.

ليس لأحد أن يجادل الغنوصيين في عدم اتخاذهم موقف محدد من المعتقدات الدينية بل يمكن أيضاً عدم مناقشة آخرين في إهمالهم وعدم التعرف على بعض القواعد العلمية الثابتة والتي لها مساس مباشر في حياتنا اليومية مثل قواعد الضغط والحرارة والجاذبية . لكن من المستهجن حقاً أن يكون هناك غنوصيون ىبالنسبة لعلم الماركسية وهو يبحث في تشكل المجتمعات على اختلاف أجناسها، في تشكيل علاقات الإنتاج وتشكل الطبقات والصراع الطبقي في كل جنس منها ؛ وهو ما يعني كيف ولماذا يحصل كل فرد في المجتمع أسباب حياته . ليس ثمة من مغالاة في اعتبار معرفة هذه الحقائق من علوم الماركسية هي أولى من معرفة الشخص لاسمه واسم عائلته اللذين لا معنى لهما ولا يفيدان في شيء أكثر من تحديد الشخص بعينه ولا فرقاً إن كان اسمه عمراً أم زيدا .

في ختام هذه المعالجة المقتضبة نعود لنؤكد للمنحرفين والمحرفين، وما أكثرهم بعد بداية تراجع الثورة الاشتراكية منذ خمسينيات القرن الماضي، أن ديالكتيك ماركس النافذ في الطبيعة كما في المجتمعات، التي هي في نهاية المطاف من أشياء الطبيعة، والذي لا علاقة له بديالكتيك هيجل، يستوجب الإنسان أينما كان وبغض النظر عن شكل ارتباطه بمجتمعه دراسة فلسفة أو الأحرى علم "المادية الديالكتيكية" بكل العمق اللازم . بل إن عدم تدريسه في المدارس كجزء من منهاج الصفوف الثانوية إنما هو موقف سياسي مرفوض مبدئياً في التعليم . ديالكتيك الطبيعة هو أساس الوجود بمختلف تهيؤاته والتي منها الحياة نفسها . عدم تدريسه في المدارس هو اعتداء على حق الإنسان في العلم والتعليم .