تُشن معظم الحروب سعيًا لتحقيق أهداف معينة، لم يكن متاحًا تحقيقها قبلها، أو ربما لفرض واقع حال جديد، يغيّر من واقع المعادلات القائمة، ويقلب موازين القوى أو يغيرها، ويفرض ظروفًا جديدة، فتتيح إملاء شروط من قبل الأقوياء والمنتصرين على الآخرين.

لم تخلُ الحروب العربية مع الكيان الإسرائيلي من وجود مباشر وواضح للقوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تحت مختلف الحجج والذرائع التي كانت تسوقها تلك القوى لتقنع بها مجتمعاتها، من خلال آلَتها الإعلامية الضخمة التي كان يسيطر عليها اليهود، قبالة فشل إعلامي عربي وإسلامي يُظهر جهلنا الكامل بخطورة تلك الأداة.

معظم تلك الحروب كانت تنتهي بهزيمة واضحة للعرب، باستثناء ما حققته مصر عام 1973، عندما استعادت معظم سيناء، وما حققته المقاومة الإسلامية في لبنان عامي 2000 و2006 من طرد للكيان من مناطق واسعة من الجنوب اللبناني، فيما كان الكيان هو المنتصر وبشكل لا لبس فيه في بقية المواجهات.

ما قد يغيب عن الكثيرين، هو أنه وخلال عشرات السنوات من هذا الصراع، كان الغرب هو الخاسر الأكبر. فكيف ذلك؟

منذ تصدر الولايات المتحدة الشأن العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وتراجع الغرب عن دوره الاستعماري كقائد للعالم، وصيرورته تابعًا لسياساتها مضطرًا، كنتيجة لآثار تلك الحرب المدمرة، صارت أميركا هي من تصدر الثقافة، وتحدد معايير الحقوق، وتلعب دور الوسيط لكل النزاعات في العالم، حتى لو كانت من صنعها، بل وصارت تقدم نفسها كنموذج "الحياة الحلم" التي يجب أن تكون عليها الحياة الإنسانية.

بل وصلت إلى مرحلة أن صارت هي المعيار لمختلف القضايا الثقافية والحضارية والفكرية، خصوصًا مع انهيار خصمها النوعي الاتحاد السوفيتي وفشل الفكر الشيوعي. لكن ما كان يزعزع هذا الدور "المتفرد" لأميركا هو انحيازها الكامل للكيان الغاصب، رغم محاولتها تغطية ذلك كله بثوب الدفاع عن النفس وحفظ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكثير من تلك "المفاهيم" التي كانت تقدمها كثوابت لسياساتها ومنهجيتها.

لكن كل ذلك وعندما بدأت المجتمعات تقارن بين ما تدعيه أميركا والحضارة الغربية وما تطبقه وتفعله، خصوصًا خلال الحرب الأخيرة ضد فلسطين ولبنان، صار سلسلة من الأكاذيب والخدع، وظهر أن ما كانت تدعيه أميركا من دفاعها عن الحقوق والإنسان والنساء وما شابه، كان نفاقًا له أهداف سياسية بحتة.

من الواضح أن دور النموذج الأخلاقي والمجتمعي والديمقراطي والحقوقي، أو دور الوسيط المحايد العادل، لم يعد صالحًا لتلعبه أميركا، وليس أمام الحكومات أو النخبة السياسية فحسب، بل ولم يعد مقبولًا مجتمعيًا، ولا حتى من قبل المجتمعات الغربية نفسها. وهنا خسارتهم الكبرى.