في العشرين من شهر تشرين الأول الجاري، شهد إقليم كوردستان كرنفالاً بهيجاً وعرساً ديمقراطياً قل نظيره في العراق والمنطقة، إذ تمثل ذلك بإجراء انتخابات الدورة السادسة لاختيار ممثلي الشعب في البرلمان والحكومة المقبلتين وإعادة الروح والفاعلية والشرعية للمؤسسات الحكومية، والاستعداد لدورة برلمانية جديدة، لغرض تشريع القوانين والرقابة على أداء الحكومة ومؤسساتها.

العرس الانتخابي في إقليم كوردستان جرى في ظرف استثنائي وصعب للغاية، لا سيما بعد صدور قرار وقف صادرات نفط الإقليم من قبل محكمة التحكيم الدولية بباريس، واستمرار قطع رواتب الموظفين في إقليم كوردستان، فضلاً عن قرارات المحكمة الاتحادية الجائرة لسحب الصلاحيات الدستورية من حكومة الإقليم ومحاولة خلق فجوة عميقة بين الشعب الكوردستاني وحكومته الائتلافية التي قادها مسرور بارزاني.

وظن الكثيرون أنه في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشها الإقليم منذ قطع موازنته في عام 2014 إلى اليوم، أن شعب كوردستان أصيب باليأس والإحباط وسوف يعزف عن المشاركة في الانتخابات، وإن شارك فستكون نسبة المشاركة ضعيفة جداً بحيث سيؤثر ذلك على شرعية الانتخابات ومستقبل كيان إقليم كوردستان.

إلا أنَّ شعب كوردستان، من خلال وعيه وشعوره العالي بالمسؤولية ومشاركته الكبيرة والفاعلة في الانتخابات، دحض كل تلك الحسابات الواهمة والتكهنات الخاطئة، وأعطى أنموذجاً حياً لشعب متفهم لمجريات الأحداث، مدركاً للتحديات والمخاطر التي تحدق بكيانه الذي قدم من أجله تضحيات جساماً خلال عقود من الزمن.

أفرزت المشاركة الكبيرة للناخبين الكوردستانيين في العملية الديمقراطية الانتخابية جملة من المعطيات الجديدة على مستوى الإقليم والعراق وربما المنطقة، لكن أهمها تتلخص في نقطتين رئيسيتين وهما:

نسبة المشاركة
إن نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة، طبقاً للإحصائيات والأرقام المعلنة من قبل المفوضية المستقلة العليا للانتخابات، تجاوزت 72 بالمئة، وهذا الرقم يعد نادراً في تاريخ الديمقراطيات في الشرق الأوسط والمنطقة وحتى على مستوى العالم، والمتتبع لنسب المشاركة في انتخابات الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي تعد أعتى ديمقراطيات العالم قلما تجاوزت نسبة المشاركة فيها 60 بالمئة في أحسن الأحوال، لذلك هذه النسبة العالية من المشاركة دلالة على أن الناخب الكوردستاني لم يصوت عاطفياً أو اعتباطاً أو من أجل مصلحته الشخصية أو المناطقية أو العشائرية، وإنما حضر للمراكز الانتخابية وهو يحمل في ذاكرته عقوداً من النضال الدامي المرير، وحسابات مستقبلية دقيقة، لينتخب الحزب الذي استقتل من أجل الحفاظ على كيانه خلال العقود الثلاثة الماضية وسعى بشق الأنفس وبصبر وحكمة قل نظيرهما لبناء مستقبل واعد لشعبه، وبذلك حسم الأمر لصالح الحزب الديمقراطي الكوردستاني لقيادة المرحلة المقبلة من الحياة السياسية وإكمال المشاريع والخطط والبرامج الطموحة التي وضعتها حكومة مسرور بارزاني وهي مصرة على ديمومة المسيرة واستمرار مشاريع العمران وتقديم أفضل الخدمات للمواطنين.

مكافأة الصالح ومعاقبة الطالح
تصويت غالبية الناخبين لصالح الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وتراجع نسبة جمهور ومقاعد الحزب المنافس، دلالة واضحة على أن شعب كوردستان يراقب الأمور بدقة متناهية ويشخص الصالح من الطالح بشكل جيد، ويكافئ الحزب الذي يعمل من أجل مصلحته ومصلحة الأجيال المقبلة ويعاقب من يسعى ويعمل لمصلحته الذاتية والحزبية ويساوم على الثوابت الوطنية والقومية لإشباع نزواته السلطوية وعقده النفسية، لذلك جاءت نتيجة الانتخابات محبطة ومفجعة لمن كان يعتقد أن الخطابات الشعبوية والسوقية الضحلة والتواطؤ مع خصوم إقليم كوردستان على حساب المصلحة العامة هو الطريق الصحيح لتحقيق تلك الأهداف الخبيثة.

نجاح العرس الانتخابي هيأ الأرضية لمرحلة جديدة معقدة وشاقة ووضع قادة القوى السياسية الفائزة أمام مسؤولية وطنية بالغة الصعوبة لتشكيل الوزارة الجديدة، النتائج المتباينة بين الانتخابات السابقة والجديدة، وخسارة قوى لمقاعدها وحصول أخرى على مقاعد أكثر من السابق، وطبيعة العلاقات بين الأحزاب الكوردستانية، وتباين رؤية وأهداف القوى الفائزة لرسم سياسة إقليم كوردستان المستقبلية، ستضع قادة القوى السياسية الكوردستانية الفائزة أمام خيارات صعبة وحوارات شاقة، لكن على جميع تلك القوى وضع الخلافات السابقة والخطابات الدعاية الانتخابية المتشنجة جانباً، والعمل بمسؤولية ونكران ذات، من أجل تشكيل حكومة ائتلافية رصينة قادرة على تلبية مطالب وطموحات شعب كوردستان، الذي ضرب أروع مثال لتعزيز الديمقراطية على مستوى الإقليم والعراق والمنطقة.