ماذا يحدث عندما يشيخ الوعي ويصبح عاجزاً عن استنهاض العقول وإعادة وجودها؟ وماذا يحدث عندما يصبح التخلف هو سيد الساحة يصول ويجول في غياب الوعي العاجز؟ الأكيد أن المجتمع سيصبح في وضع لا يُحسد عليه. هل الوعي يشيخ؟ نعم، يشيخ ويهرم ويعجز ويداس بأقدام الجهل، ولا نحتاج إلى دليل أمام الواقع الذي نعيشه.

من أهم الفوارق بين الوعي والتخلف هو أنَّ الإنسان الواعي عندما يقوم بفعل ما يعرف، ولو جزئياً، لماذا يقوم بهذا الفعل، وما دوافعه، بينما المتخلف يفعل الأشياء دون دراية منه. في مجتمعاتنا، تكثر الأشياء التي يفعلها الناس دون فهمها، سواء أكان ذلك في الجانب التقليدي المجتمعي الموروث أو الجانب العقائدي وبالتحديد الديني، فكأنما هم مجرد دمى متحركة.

عندما يذهب أحدهم إلى الانتخابات مثلاً لينتخب مرشحاً لا يعرف عنه سوى أن خطابه كان جميلاً، أو أن المرشح يلتقي معه بالمذهب أو بالدين أو بالمعتقد أو باللقب، أو أن فلاناً من الناس قال له انتخب فلاناً، فينتخبه ثم يندب حظه بعد حين لأن اختياره كان خطأ، هذا هو التخلف.

المتخلف يؤمن بما يسمع، بينما الواعي يؤمن بما يسمع ويرى ويُعقل، فالسمع وحده لا يغني عن الحق شيئاً. فالمتخلف لا يكتفي بأن يؤمن بما يسمع، بل يجعلها في مخيلته هي الحقيقة المطلقة ويحارب من أجلها ويعادي من يخالفه الرأي، وقد ينتقم منه، فهو على بينة من الأمر حسب اعتقاده.

عندما كنا في مرحلة المراهقة، كنا نذهب إلى دور السينما لمشاهدة أفلام القتال على غرار أفلام بروس لي، وكنا نتفاعل بشدة مع أحداث الفيلم إلى درجة أنه بعد العرض السينمائي يتخيل واحدنا أنه أصبح بقوة بروس لي، المقاتل الشجاع، فينفخ ريشه ويظن أن من يتشاجر معه سيسقطه بالضربة القاضية على طريقة بروس لي. ولم يكن يدرك أنه تأثر بالمشاهدة السينمائية، وأن بروس لي لم يكن سوى عرض سينمائي.

هذا هو التخلف الذي يُنتج سرعة التأثر. بمعنى أن المتخلف الجاهل مجرد صدى، فعندما كنا نسمع الخطب الثورية الجنونية الحماسية للوعاظ، كنا نخرج إلى الشوارع ونريد حمل السلاح والانتقام! لكن ممن؟ لا ندري. وهكذا كانوا يبكوننا بسهولة ويجعلوننا نلطم ونصرخ، وكذلك كانوا يحشدوننا بأي اتجاه يريدون لأننا لم نكن سوى مادة خام بأيديهم بسبب تخلفنا وجهلنا.

مشكلتنا أننا كنا نتأثر بما نسمع وما لا يُعقل لولا أننا كنا نرى آباءنا وكبراءنا قد سبقونا إليها، فلم نجد من يردعنا عن الابتعاد عما لا يُعقل. وكذلك مدارسنا لم تكن لتعلّمنا كيف ومتى نتقبل الأمور ونقلدها لأن المناهج التعليمية هي مناهج متخلفة بالأساس تخدم التخلف وتزيد من تخلف المتخلفين ولا تخدم من يريد الوعي.

إقرأ أيضاً: لماذا يدعمون إسرائيل؟

هذا هو واقع مجتمعاتنا، فأينما نولي وجوهنا نجد ما يزيد من جهالتنا وتخلفنا. فالإنسان الذي يبحث عن الوعي يصبح بنظر الناس متمرداً، منبوذاً، مكروهاً لأنه أصبح مختلفاً عنهم.

التجارب تخبرنا بأنه لا يوجد إنسان يعاني في هذه الحياة من هموم وتعاسة إلا وتجد التخلف حاضراً في تفكيره أو بسبب تخلف المجتمع الذي يعيش فيه. ففي الحالتين يمسه ضرر التخلف. أما إذا كانت قوانين الدولة وكوادرها متخلفة، فالمعاناة تكون أثقل وأشد وطأة. فلا نستغرب في مجتمعاتنا أن يكون المسؤول هو أول المتخلفين لأن قوانين الحياة في مجتمعاتنا تهيئ المتخلف العنيد العدواني للقيادة والمسؤولية أكثر مما تهيئ الإنسان الواعي المسالم.

إقرأ أيضاً: التحول الجنسي انحراف أم ثقافة

فهل نتصور المسؤول الذي يسرق هو إنسان واعٍ؟ أكيد لا. وهل نتصور المسؤول الذي يؤمن بالعنف والتخويف والعنتريات هو إنسان واعٍ؟ أكيد لا. وهل نتصور ذلك المسؤول الذي يجعل مقر عمله استعراضاً للعبادة والتدين هو إنسان واعٍ؟ أكيد لا.

الأخلاق جزء من الوعي، التواضع جزء من الوعي، الصدق جزء من الوعي، الاستقلالية وعدم التبعية هي مؤشرات الوعي، احترام وحفظ حقوق الناس جزء من الوعي. وغيرها، إذا لم تكن موجودة في شخصية المسؤول، فأين الوعي؟

الوعي ليس حلاوة لسان، ولا ختماً على الجبين، ولا نوعية وماركة العطر الذي يتعطر به، ولا حتى التعبد، ولا حجم العمامة، ولا أي صفة شكلية.

إقرأ أيضاً: لماذا تترقب دول العالم الانتخابات الأميركية؟

الوعي هو التوجه نحو المستقبل، لا نحو الماضي. الوعي هو التفاؤل الممزوج بالعمل. الوعي هو إدراك الحقائق التي يمكن تنميتها بالثقافة والمعرفة، وبالاستفادة من التجارب، وبالثقة بالنفس. هذه العوامل هي التي تنمي الوعي عند الإنسان وتجعله إنساناً رصيناً يصعب خداعه ببضع كلمات عاطفية فارغة.

حاجتنا إلى الوعي أصبحت حاجة ملحة تتقدم على ما سواها من الاحتياجات لأن مجتمعنا يتعرض لتجهيل قاتل قد يعيده إلى زمن العبودية بمحض إرادته! عندها وبعد فوات الأوان سيدرك كم كان التخلف حيوياً نشطاً يسرح ويمرح في ساحة حياته، وكم كان الوعي منطوياً هرماً يعاني الشيخوخة والعجز.