أثبتت التجربة الإنسانية بأن لا شيء في هذه الدنيـا يستحق أن يعتز به المَـرء أو يفتخر سوى الإنسانية، فكون المَرء إنساناً شائت الأقدار والصُدَف أن يَحيا ويعيش في هذه الدنيا، هي ربما الحقيقة الوحيدة التي تستحق العيش لأجلها والدفاع عنها والإستمتاع بها، دون تضييع ثانية منها في الإهتمام بمفاهيم إفتراضية إخترعها البشر وجعلوها مُسَلّمات، مثل الدين والمَذهب والعِـرق. لذا ينبغي على المَرء أن لا يشغل نفسه أو يُضَيّع وقته بها، وأن لا يُعطيها أكبر من حَجمها الإفتراضي. كما أنها مُتغيرات نسبية تتحكم بها عوامل ظرفية، لذا تتغير مكانتها وأهميتها بتغير المكان والزمان والمجتمع الذي وُلِد المَرء ونَشأ وعاش فيه.

إذا أردنا أن ننهض بمجتمعاتنا علينا أن نبدأ بتبني هذه الحقيقة كما فعلت غيرنا من المجتمعات، التي سبقتنا في طريق العلم والتحضر والإنسانية، فيما لا تزال مجتمعاتنا غارقة في وحل الصراعات الدينية والطائفية والعِرقية الذي غادرته المجتمعات الغربية وطَهّرت نفسها منه منذ قرون. وأبسط طريقة نبدأ بها هذا الأمر إذا كنا بالفعل جادين في مسعانا لإصلاح مجتمعاتنا ودفعهـا للأمام، هو أن ندعوا يومياً ودوماً مثـلاً بحياة مباركة لكل الإنسانية، وليس بجمعة مباركة للمسلمين فقط، التي يرددها ويرسلها غالبية المسلمين لبعضهم البعض عبر مواقع وبرامج التواصل الإجتماعي، في نفس الوقت الذي يقف فيه شيوخ الدجل على منابر مساجد ضرار وخلفهم ملايين المسلمين المُوامنة ليدعوا بالموت والثبور على باقي البشرية!

من يعتقد بأن الجمعة مباركة، وبأن هذه الثمرة مباركة، وبأن تلك الرقعة من الأرض مباركة، هو بالتأكيد يعتقد ويظن ذلك لأسباب دينية، أي لإيمانه بالله الخالق، وما دام كذلك فهو إذا يؤمن بأن الله هو خالق كل شيء في هذا الكون كله وليس في كرتنا الأرضية وبلداننا فقط. بالتالي عليه من باب أولى أن يعتقد بأن كل ما بهذا الكون مبارك، لأن الله خلقه وخلق مكوناته المادية والحسية بالتساوي، ولم يفضل خلقاً على خلق، لأنه سبحانه عدل مطلق. وهو ما سيقودنا منطقياً الى نتيجة أن لا جمعة المسلمين هي فقط المباركة وعلى رأسها ريشة كما يظن المسلمون. ولا سَبت اليهود هو فقط المُبارك وعلى رأسه ريشة كما يظن اليهود. ولا أحّد المسيحيين هو فقط المبارك وعلى رأسه ريشة كما يظن المسيحيون. بل أن كل أيام الله مباركة، كما أن الحياة والدنيا والبشرية كلها مباركة، لأنها كلها من إبداع الخالق العظيم. 

ستنهض مجتمعاتنا، وستخرج من ظلمتها، وسيغير الله من حالها، متى ما قررت أن تغير ما بأنفسها من عقد وأمراض، ومتى ما قررت أن تخرج من عالَم الدين أو المَذهب أو العِرق الضيق الذي تحبِس شعوبها فيه، والذي لا وجود له سوى في مخيّلتنا الإشكالية.

 

 

مصطفى القرة داغي

[email protected]