في البداية، لا بد من توضيح المقصود بالآيدولوجيا والإطار المرجعي. فالمقصود بالآيدولوجيا هو علم الأفكار أما الإطار المرجعي، فهو حاصل الخبرات والتجارب والمعلومات والمعارف التي يحصل عليها الإنسان في مسار حياته، وهو الذي يقوده إلى تكوين رأي بشيء معين. لذا فإن القناعات والمعتقدات تتباين إلى حد التعارض والاختلاف، وبينما تكون الأفكار العلمية قابلة للقياس والتقويم، فإن الأفكار الاجتماعية تبقى في حالة هلامية لا تستقر على رأي واحد يجمع الناس جميعا. وعندما وضع آينشتاين نظرية النسبية، كان يتحدث عن الفيزياء وليس عن المجتمع، وقال أن الوزن ليس ثابتا فهو يعتمد على السرعة والتسارع ومقدار الجاذبية، لذا فإن وزن الإنسان يختلف في الفضاء وعلى الكواكب الأخرى. أما العلوم الاجتماعية فهي في مهب الريح، وكل فرد يقيس الأمور بإطاره المرجعي، أي السياق أو الظروف التي تحدث فيها الأحداث. ولنأخذ مثالا بسيطا، إذا قال شخص ما "لو كنت مكانك لتركت المدينة"، فهذه العبارة ليس لها معنى بدون سياقها، فإذا كان المخاطب خصما للمتكلم، فإنها تعني تهديد، وإذا كان المتحدث هو الأم فالعبارة تعني نصيحة، وإذا كان المتحدث صديقا يتحدث عن الماضي، فالعبارة تعني لوما على حدث سابق. وهكذا، فإن كل ما يقال يقاس بسياقه أو إطاره المرجعي، فليس هناك مفاهيم مطلقة وكل مفهوم مرتبط بسياقه الظرفي الزماني والمكاني والأشخاص وسلسلة الأحداث المترابطة. ذلك أنه لا يوجد حدث يحصل في فراغ، ولا بد من نقطة انطلاق يكون المتحدث مستندا إليها، وتفهم على أساسها.
وربما تكون العلوم الاجتماعية من أصعب العلوم لكثرة المتغيرات فيها، ويمكن أن يقوم باحث بدراسة تأثير عدد الأسرة على التحصيل العلمي للطفل، ويجري استطلاعا ميدانيا على عينة مكونة من 5000 طالب، ويخرج بنتيجة مفادها أنه كلما قل عدد أفراد الأسرة زاد التحصيل العلمي للطالب، ولكن هذه النتيجة ليست ذات معنى في مجتمعات أخرى أو ظروف مختلفة، وكانت صحيحة فيما يتعلق بالعينة في ذلك المجتمع. وعليه، فإن تكوين القناعات وافتراض صحتها في جميع الأماكن والأزمان هو تشويه للحقيقة وتضليل للرأي. ومن هنا كان الاختلاف القديم جدا بين من يعتقدون أن الله خلق الكون والذين يعتقدون أن الكون خلق نفسه، وأشهر حالة هي حالة أفلاطون وتلميذه أرسطو. وفي العصر الحديث الشيوعية والرأسمالية.
هناك من يعرض أفكاره بنية حسنة وهدفه العدل والإنصاف للشعوب، وهناك من يعرض أفكاره تحقيقا لمصالح شخصية أو شعبوية، وليس تعميم الخير على الجميع، وأبرز الأمثلة على ذلك في عصرنا الحالي هو العولمة، وبطلها الولايات المتحدة الأمريكية، التي سعت ولا تزال تسعى إلى فرض رؤاها على الشعوب، لأن إطارها المرجعي يختلف عن الأطر المرجعية للشعوب الأخرى، فمن مصلحة الدول الصناعية الكبرى أن تفتح حدود الدول وترسي السلام والأمن والتعايش السلمي وتروج لثقافة التسامح الثقافي والديني، وذلك لأن لديها بضائع ومنتجات هائلة وهي تسعى لتسويقها في دول العالم دون خوف من إرهاب أو سرقة أو جرائم الكترونية أو غسل أموال وغير ذلك وإطارها المرجعي هو التجارة الحرة فهي تريد الدخول إلى كافة الأسواق دون تشويش، وهكذا صارت تعظ بالقيم الجديدة ونشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، ذلك الإرهاب الذي صنعته بنفسها، بسبب إطار مرجعي كان قائما إبان السبعينات من القرن الماضي. واليوم باتت تسيطر على الأمم المتحدة لكي تملي القناعات التي تخدم مصالحها، إلى درجة اعتبار المقاومة ضد المحتل إرهابا، وعلى الشعوب أن تتقبل المحتل وتتعايش معه سلميا وتتحاور معه، أما الدول التي أغلقت أبوابها أمام تجارتها الحرة فقد دمرتها بالكامل، وإذا ما استجد واقع جديد، سنجد أن الولايات المتحدة أول من يدعو إلى القيم التي يتطلبها الواقع الجديد ويخدم مصالحها.
ليس الهدف من هذا الحديث هو التصدي العنيف لمن يحاول فرض معتقداته ورؤاه وقيمه، ولكنه دعوة إلى عدم الانقياد التام وتقديم القرابين على شكل أموال طائلة ومشاريع استثمارية في الخارج لاتقاء الشر فيما الداخل يتضور جوعا. وتلعب القيادات دورا محوريا في طريقة التعامل مع هذه الهيمنة بحيث تدرأ المخاطر وتجلب المنافع، لا أن تشرع أبوابها لمن يريد أن ينهب مقابل الإبقاء على حياتها. أما فرض الآيدولوجيا الدينية بهدف تحقيق دنيوية أو أخروية فهذا شأن آخر يحتاج إلى مجلدات.
- آخر تحديث :
التعليقات