في كل عام، يأتي عيد الأب ولا يأتي أبي.

أراه في الطرقات، في الصور، في ضحكة الأطفال وهم يركضون نحو آبائهم... لكنه لا يأتي إليّ.

كنت في شهري الأول حين غاب، لم أكن أعرف النطق ولا الذاكرة، لكن الغياب نفسه علّمني كيف أشتاق إلى من لم أعرف.

هو العيد الوحيد الذي لا يمرّ مرورًا عاديًا، بل يفتح الباب على أوسع وجعي.

الناس يحتفلون، يضحكون، يكتبون رسائلهم لآبائهم، أما أنا فأكتب لرجلٍ لم يمسك يدي، لم يرفعني على كتفه، لكنه ظلّ في قلبي كأنّه لم يغِب.

أكتب له لأني لم أكن أعرفه، لكني كنت أعرف أن شيئًا كبيرًا قد انتُزع مني وأنا بعد رضيع.

مات أبي شابًا في العشرين، وكانت رؤيتي له أقرب إلى الحلم.

رحل قبل أن ألفظ كلمة "بابا"، وقبل أن أدرك ما تعنيه الأبوة.

تركني وحيدًا، لا إخوة يحملونني، ولا كتف يسندني، ولا يد تمسح عني خوف العالم.

كبرتُ كأنني حرف يتيم في كتاب مهجور، لا بداية له ولا نهاية، وكأن الحياة اختارتني لأكون شاهدًا على ما لا يُقال، وغريبًا بين من وجدوا آباءهم ومضوا.

لا تقل لي إن يُتم الأب سهل، فأنت لن تعرف كيف يبدو الليل حين تنادي ولا يأتيك صوت، ولن تشعر بثقل العالم حين تكون صغيرًا تعمل لتسد فراغًا اسمه "أبي".

كنت أرى الأولاد يتدلّون من أذرع آبائهم، يذهبون إلى أماكن الفرح، وأنا أجلس على الهامش، أرقب المشهد دون أن أكون جزءًا منه.

كنت أراقب الجنود العائدين من الخدمة، كيف يركض الأطفال إليهم كمن وجد كنزه، وكيف كان جارنا الناطور يحمل ابنه المريض على ظهره إلى الطبيب، والطريق طويلة.

أما أنا، فحين كانت تضيق بي الدنيا، لم يكن لي إلا الغفلة.

أنام على ألمٍ خافت، وفي منتصف الليل، أنادي في الظلمة:

"أيها المجتمعون بأولادكم الآن... هل رأيتم أبي؟".

أيّها السائل إن كانت الأعياد كلها تمرّ بي مرور العابر؛ أقول لك لا ؛ لأنّ عيد الأب لا يشبه غيره.

هو العيد الوحيد الذي يفتّش عني كما أفتّش عنه.

البارحة فقط، حملت شمعتي الصغيرة، وأضأتها على الطريق الذي كان يأتي منه، وكأنني أرشّ النور على دربه القديم.

حدّثته عن فاتورة الغياب، عن السنوات التي مرّت بي دون حضنه، دون ظله، دون حنجرته تقول اسمي.

حتى في عمر الأربعين، تشتاق إلى جذعك، إلى الأصل الذي تفرّعت منه، فتقف في منتصف العمر مبتورًا، تنادي ابنك "يا أبي" لا لتربكه، بل لتشمّ من النداء رائحة ما افتقدت.

تأسرك الغمرة حين تركض إليك ابنتك، لأنك ما غمرت، بل كنت المنتظر في الصفّ الخلفي من الحياة.

وما يداويك في النهاية، هو صبرٌ يشبه الجبر، حين تسمع أولادك يقولون:

"لا تُطل غيبتك عن البيت، يا أبي"،

فتشعر أن الرحلة الطويلة نحو الأبوة كانت شفاءً، ولو بعد وجعٍ لا يُنسى.

أكتب لأنني لم أعش ما كتبت، بل راقبتُه. راقبت كيف يُبنى الطفل حين يكون له أب، وكيف يُترك معلّقًا بين الحنين والخذلان حين يفقده.

لا تقولوا إن الأم تكفي، فالأب ليس فقط نصف العائلة، بل هو سند، ظل، صدى، وأمان.

هو الذي يراك أفضل ما عنده، حين يراك الجميع عاديًا.

هو الذي يعطيك شعورًا بأنك قادر على أن تمشي في هذا العالم، حتى وإن تعثّرت.

احفظوا آباءكم كما تحفظون قلوبكم. لا تمرّوا على وجودهم مرور الكرام،

فهم لا يعطون شيئًا واحدًا... بل يعطون كل شيء.