انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي العربية والكردية تعابير استهزاء وتهكم حول التنوع العرقي الطاغي في تشكيلات الفرق الرياضية المتنافسة في مونديال كأس العالم ٢٠١٨ لا سيما الأوروبية منها في ظاهرة جديرة بسبرها والتمعن في مضامينها فمختلف المنتخبات الأوروبية خاصة الإسكندينافية منها والغربية تميزت بتنوع خلفيات لاعبيها العرقية الشديد في علامة صحية تستحق بداهة الاشادة وليس الاستهزاء حيث اللاعبون : الأفريقي والجنوب شرق آسيوي والامازيغي والعربي ... جنبا الى جنب مواطنيهم وزملائهم في الفرق الأوروبية يسطرون ملاحم كروية ابداعية ويستحوذون على المربع الذهبي اذ احتكرت أوروبا بمنتخباتها دوري الأربعة في البطولة& ما يؤشر الى مدى بلوغ دولة المواطنة والمساواة مبلغها المؤسساتي الناجز&
والجميل أن صناع النصر في هذه المنتخبات هم في غالبهم من اللاعبين المتجنسين& ممن يتحدرون من أصول أجنبية كما حال مجموعة من اللاعبين ذوي الأصل الأفريقي في منتخب فرنسا& الذي بات وللمرة الثانية بطل العالم لكرة القدم&
واقع الحال أن هذه الظاهرة اللافتة هذا المونديال لا يمكن فصلها عن مؤثرات حقب الاستعمار والانتداب فمثلا تتحدر نسبة وازنة من لاعبي الفريق الفرنسي من مستعمرات فرنسية سابقا وهكذا لكن بدلا من أن تشكل هذه الظاهرة الهاما وحافزا لمجتمعاتنا نحن خاصة لتجاوز عقد النقص والدونية والتنابذ والسمو فوق النزعات العنصرية نرى العكس تماما فنحن الذين لطالما نصف الغرب بالعنصرية والاستعلاء ها نحن نمارس فعل الاستهزاء بحق فريق حصد كأس العالم بتشكيلة متناغمة موزاييكية فقط لكون أبرز نجومه سودا وأفارقة بالأصل ما يكشف وللمرة المليون حجم النفاق والازدواجية التي تعانيها مجتمعاتنا المأزومة التي ربما في محاولة لامتصاص عقدة العجز عن حصد هذه الكأس أو بلوغ مراحل البطولة المتقدمة نمارس كالعادة العنصرية الفاضحة التي تخال نفسها مقنعة لدرجة أن بعض التعليقات أتت على شكل : أخيرا افريقيا حصلت على كأس العالم فالأمر ولا ريب أكبر من مجرد خربشات تواصل اجتماعي أو حديث مقاهي شعبية إنما هو تعبير عن وعي عام عصابي لا يكف عن القطع مع كل ما هو إيجابي وانساني تفاعلي وتكاملي وعن السعي الدائم الى الحط من شأن مركزية الحضارة الأوروبية التي ليس سرا أن فرنسا مهدها التكويني في محاولة للتعويض الوهمي اليائس عن العجز والفشل الحضاريين المبرمين&
على أن نجاح مواطنين فرنسيين وإنكليز وسويديين ... من أصول متنوعة في الوصول الى قمم الرياضة الوطنية والعالمية مؤشر الى تقدم وتكرس قيم التشارك والتكامل في التراكيب الاجتماعية والوطنية لهذه البلدان التي تجاوزت العرقية والعنصرية ويمكن لأي مقيم فيها استحصال جنسياتها خلال بضع سنوات قليلة من الإقامة بعكس دولنا التي تحرم حتى أبناء الزوجة المواطنة من الحق في الحصول ع جنسية بلد الأم وقس على ذلك&
على أنه في موازاة ذلك فان الترحم على زمن الاستعمار الجميل من قبل الشعوب الخاضعة للاستعمار ذات حقبة والتي أستقلت ولَم تتحرر لم يعد سرا ولعل من أبرز& تجلياته أن بلدانا كانت مستعمرات فرنسية خرجت فيها مظاهرات فرح وغبطة احتفالا بحصد المنتخب الفرنسي للقب الرياضي العالمي الأهم فنحن هنا& أمام سقوط مبرم لسرديات وشعارات أبلسة الاستعمار الغربي الأوروربي ولعنه بمناسبة وبدونها وتحميله وزر الفشل والإخفاق في بناء دول تعاقدية مؤسساتية بعد مرحلة الاستقلالات فالدولة المستعمرة ليست كلها شرا مطلقا بل يمكن الاستفادة منها جنبا الى جنب نقد وتفكيك سردياتها الاستعمارية بل ومحاكمة ارتكاباتها حتى فماذا لو تم الاقتداء بنموذج الحكم الرشيد والتداول على السلطة وفصل السلطات وتكريس النظام الديمقراطي التعددي الذي يميز كبريات القوى الاستعمارية الغربية فنحن نستورد كل شيء من هذا الغرب سوى الديمقراطية&&&
وأن يحتفل أفارقة ومغاربة وتوانسة ولبنانيون بفوز فرنسا فهذا مؤشر صريح الى أن ثمة نوستالجيا ما ليس للاستعمار بمعناه السلبي الاحتلالي المباشر إنما لواقع التقدم الحضاري الذي يجسده ذاك المستعمر والذي يوفر آليات حتى لمحاكمة الحقب الاستعمارية في عقر دار& كبريات الدول الاستعمارية بينما يبقى الاستعمار& في وعينا وفِي يومياتنا الشماعة الأثيرة التي نعلق عليها إخفاقاتنا الوجودية& الممتدة من الفشل في بناء تعاقدات وطنية الى الفشل في مجال الخدمات والتعليم والطبابة والرياضة عامة وكرة القدم خاصة.&
هذا الملمح الكوزموبوليتي الطاغي على منتخبات الدول الأوروبية تحديدا ظاهرة جديرة بالبناء عليها لجهة تعزيز مناخات الاندماج والتواصل والتعايش ليس على صعيد بلدان القارة العجوز فقط بل هو درس لنا جميعا حول العالم مفاده أن التعدد والتنوع والانفتاح وتكافؤ الفرص وتنمية روح المبادرة الفردية التي تجعل لاعبا مهاجرا متحدرا من بيئات مدقعة يصل لعرش الكرة العالمية& مجلبة سعد وانجاز فمن مبابي الفرنسي الى لوكاكو البلجيكي الى رحيم الإنكليزي كم كان جميلا وعابقا بالدلالات السامية أن لاعبين سودا وسمرا أفارقة وكاريبيين ... في الأصل هم رأس حربة منتخبات أوروبا التي لطالما اقترنت في وعينا بالانسان الأبيض العنصري مصاص دم الشعوب والرأسمالي الجشع الذي ها هو يهلل لمواطنه الأسود البشرة بينما نحن نسخر من اللاعبين الملونين ونعتبر وجودهم طعنا في أصالة ونقاء منتخبات كفرنسا وانكلترا وبلجيكا ... لا شيء جديد ولا غريب في ذلك فمجمل مقارباتنا وحركاتنا وسكناتنا تدور في هذا الفلك : الانفصام عن الواقع والتناقض وتوهم العظمة واحتقار الغير والحط من شأنهم وإنجازاتهم عبر إطلاق العنان لترساناتنا الكلامية البليغة في الإنشاء اللغوي ودوما على حساب الإنشاء الحضاري