أربعون عاما وقد بلغت أشدها الثورة الخمينية , بعدما كانت تقتات بشراهة طوال الوقت على خطاب ثوري مقدس يوارب في تلافيفه شعوبية فارسية , وحلم كسروي كامن للتمدد .

لكن مائدة الوحش كانت باهظة, فهي لم تستل من موائد الشعب الإيراني فقط , بل التقمت عقل إيران ,و أفرغت الفضاء الفكري والثقافي من جميع النشاط الخلاق المبدع للنخب هناك (وصفت هذه الأجواء الروائية آذر نفيسي بشكل مبدع في روايتها أن تقرأ لوليتا في طهران) , ليتم تحويل عقل إيران لمدونة تعاليم ثيوقراطية تقوم على إلغاء الآخر وطمسه, والاستئثار بمفاصل الدولة , فطموحات الدولة الدينية لاترتبط عادة في الحاضر بل بحلم آخروي مثالي مؤجل وعصي على التحقق .

شعب كان يغرف من خطب نارية وشعارات ثورجية طوال أربعة عقود مضت, لابد في النهاية أن تصبح هي سلاحه ورماحه التي يلوح بها عندما جاع واحتاج الدواء ...وتأمل الأفق وجده خاليا من مواكب الضوء , بل مغلقا بالحدود الملتهبة , والمقاطعات الاقتصادية الدولية, وعلاقات متوترة مع عمقه الاستراتيجي .

يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان في مقابلة أخيره ( إن إيران تمر بعملية تحول عولمي واسع , فالأيرانيون وصلوا إلى إدراك وجودي بأنه من الضروري أن نفصل الدين عن الدولة فالعملية الديمقراطية في البلدان الإسلامية ستعتمد على قدرتها على التعددية الأثنية والدينية والسياسية)

ورغم إن الحراك الشعبي الحالي في إيران يسميه بعض المحللين( انتفاضة جياع ) نظرا لأنه بلا رموز قيادية كما هي انتفاضة الإصلاحيين الخضراء 2009, ولكن لانستطيع أن نغفل بإن الحراك الشعبي المحتدم والمستمر منذ عشرة أيام في الشارع الإيراني , ليس وليد طفرة مفاجئة , ولكنه حتما أحد المخرجات المتوقعة لأربعين عاما من سطوة دولة بوليسية معتقلة داخل عباءة الفقية , فبات الحراك الشعبي يدار عبر وسائل التواصل على مستوى التنسيق العفوي لاماكن التجمعات وتبادل المعلومة لجيشان شعبي استيقظ على حقيقية غياب حلم الدولة المدنية الحديثة عنه واستئثار أوليغاركية طائفية بالمشهد, جعلت من منظومتها الفكرية واجهة أحادية لشعب إيراني عريق متعدد التيارات الفكرية والعرقيات والقوميات 

قدحت شرارة الحراك في مشهد المدينة المحافظة , عندما سُرقت أحلام بعض سكانها بمنزل لائق أثر عملية فساد كبرى كان لقيادات الحرس الثوري حضور مصالح فيها.

 التاريخ تخبرنا بإن عضلات الثورة وأدوات أبطالها لا تستطيع أن تستأثر بقاعة العرش طويلا , وسرعان ماينمو على ضفافها و هامشها مجموعة من المتنفذين الطموحين الشرهين إلى مكتسباتها (ومن بين يدي مثالية ثورة 52 في مصر تقافزت القطط السمان )ومفاتيح السلطة هي التي تفتح خزائن السموات والأرض في دول العالم الثالث عادة.

فتضخمت جيوب قيادات الحرس الثوري الإيراني , وأصبحت تنازع الجيش و المؤسسة العسكرية مناطق النفوذ , بل أصبحت تضع يدها على مفاصل الموارد الاقتصادية لإيران , بينما يعيش 70 مليون إيراني ظرفا اقتصاديا صعبا.

الدولة الثيوقراطية في وقتنا الحاضر تحمل بذرة هلاكها , و وحش الثورة الذي بلغ أشده ينقلب على أصحابه مشهرا الأدوات التي يألفها ويعرفها , وما لم يكفكف الفقية عباءته ويرتد إلى صومعته مخليا الفضاء المدني للأجيال القادمة, فستظل دولته خارج التاريخ عاجزة عن الدخول إلى العصر من بوابة الدولة المدنية الحديثة .