تبنى العلاقات التي توصف علمياً وبحثياً بالاستراتيجية على شبكة متينة من المصالح المشتركة لطرفي العلاقة، وقد كانت إحدى إشكاليات العمل العربي المشترك لسنوات وعقود طويلة مضت أنه ينطلق من دون أساس مصالحي ويكتفي بشعارات وعبارات تدغدغ القلوب، وتعبر عن مشاعر واقعية تجمع الشعوب العربية، ولكن لغة السياسة ومتطلباتها وتحدياتها تحتاج إلى مشتركات تغذي شرايين العلاقات وترفدها بعوامل القوة والتماسك والاستمرارية في مواجهة التحديات.

المؤكد أن بناء المصالح وتطويرها وضمان استدامتها لا يتعارض مع مشاعر الأخوة والصداقة، بل يقويها ويدعمها ويعززها، وعلى خلاف ذلك، فإن الاكتفاء بالمشاعر واعتبارها ركيزة كافية لاستدامة العلاقات وبناء التحالفات وعلاقات الصداقة يمثل مجازفة لا يمكن ضمان عواقبها.

من هنا يمكن فهم الأهمية القصوى للتطور الأهم في منطقتنا خلال الآونة الأخيرة، وهو إعلان دولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، رؤية مشتركة للتكامل بين البلدين اقتصادياً وتنموياً وعسكرياً عبر 44 مشروعاً استراتيجياً مشتركاً، وذلك من خلال "استراتيجية العزم"، التي عمل عليها 350 مسؤولاً من البلدين من 139 جهة حكومية وسيادية وعسكرية، وخلال 12 شهراً، ومن خلال 3 محاور رئيسة هي المحور الاقتصادي والمحور البشري والمعرفي والمحور السياسي والأمني والعسكري.

وقد جاء الإعلان عن هذه الاستراتيجية مع انعقاد الاجتماع الأول لمجلـس التنسيق السعـودي الإماراتـي برئاسة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل سعود، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية في المملكة العربية السعودية.

أكثر ما يلفت انتباهي في هذه الاستراتيجية، أنها تتحدث لغة العصر وتعترف بقيمة الوقت في سباق التنافسية العالمية، حيث حدد الجانبان مدة 60 شهراً لتنفيذ مشاريع الاستراتيجية التي تهدف إلى بناء نموذج تكاملي استثنائي بين البلدين، يدعم مسيرة التعاون الخليجي المشترك، ويسهم في الوقت نفسه في حماية المكتسبات وحماية المصالح، وخلق فرص جديدة أمام الشعبين الشقيقين.

التفاصيل تشير إلى أن الاعلان عن الاستراتيجية يتوج مجهوداً مضنياً من خبراء البلدين لدراسة الواقع بكل ماينطوي عليه من فرص واعدة تكتسب أهميتها من قيمة الشريكين المتكاملين في الاقتصاد العربي والعالمي،فالإمارات والسعودية تستحوذان على %45.5 من إجمالي الناتج العربي المحلي لعام 2017، بقيمة 1.070 تريليون دولار من 2.347 تريليون دولار إجمالي الناتج العربي المحلي المقدر للعام الماضي، كما تتصدر الدولتان الشقيقتان مجتمعتين، المرتبة الـ14 عالمياً من حيث الناتج المحلي، حيث تأتي السعودية في المرتبة الـ17 عالمياً في قائمة ترتيب الدول اقتصادياً خلال 2017 ، فيما جاءت الإمارات في المرتبة الـ24، كما تتصدر الإمارات قائمة الدول الخليجية المصدرة إلى السعودية، وتأتي أيضاً في صدارة الدول الخليجية، التي تستقبل الصادرات السعودية، وتأتي في مرتبة متقدمة في قائمة الدول العشر الأولى التي تستورد منها المملكة.

هي مقومات وركائز قادرة على ترسيخ علاقات البلدين الشقيقين، ودفع العلاقات إلى آفاق أكثر تطوراً ورحابة، فالشراكة الأمنية الاستراتيجية التي اثبتت قوتها ورسوخها في "عاصفة الحزم" و"إعادة الأمل" تنتقل لتشمل مجمل علاقات البلدين بعد أن ثبت للجميع أن مواجهة التحديات القائمة والمستقبلية لن تتحقق سوى بتكاتف الأيدي والتعاون والتنسيق بين الأشقاء في الامارات والسعودية.

الحقيقة أن روابط الأخوة التي تجمع قيادتي البلدين تعبر عما يجول في صدور الشعبين الشقيقين، وقد تابعت ردود الأفعال الصادرة عن مواطنين إماراتيين وسعوديين، فوجدت أن هناك حالة من الغبطة والارتياح القوي لترجمة رغبة أبناء البلدين في تطوير علاقات التعاون الاستراتيجي إلى صيغة تكامل أكثر فاعلية وتحقيقاً للمصالح المشتركة.

وما يضاعف التفاؤل بحصاد "استراتيجية العزم" أن التخطيط التنموي في البلدين يمضي وفق نهج مدروس ويمتلك رؤية واضحة لبناء المستقبل، ففي الامارات هناك رؤيتين استراتيجيتين واضحتين هما "رؤية الامارات 2021" و"مئوية الامارات 2071"، وفي المملكة الشقيقة هناك "رؤية المملكة 2030"، وهي رؤى طموحة وواعدة وتنطلق من ضرورة التخطيط لمرحلة مابعد النفط وبناء اقتصاد تنافسي عالمي قادر على مواكبة تطلعات الأجيال الجديدة وضمان توافر الرخاء والعيش الكريم للشعبين الشقيقين، وهذه الأهداف ستتعزز وتزداد فرص تحققها من خلال هذه الاستراتيجية التي تضمن تحقيق توظيف أمثل للطاقات والإمكانات التي يتمتع بها الطرفان، وبما يخدم الأهداف التنموية، ويلبي تطلعات الشعبين.

أحد بواعث الأمل أيضاً يتمثل في إطلاق مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، التي سيقوم بانشائها على البحر الأحمر، تحالف إماراتي سعودي بتكلفة تتجاوز 100 مليار ريال، فضلاً عن مجالات عديدة للمشروعات المشتركة، التي يمتلك الجانبين خبرات تنافسية عالمية فيها، ما يتيح لهما بناء نموذج تكاملي اقتصادي قادر على جذب الاستثمارات وتحويل منطقتنا إلى واحة للتنمية التي ستعود بالنفع على بقية شعوب مجلس التعاون والدول العربية جمعاء.

استراتيجية العزم هي خارطة طريق يمضي عليها الحاضر لتحقيق رهانات المستقبل وأهدافه الطموحة، بفضل حرص قيادتي البلدين على بناء نموذج مبتكر في العلاقات العربية ـ العربية، وبناء دعائم قوية لعلاقات أخوية بين شعبين يمتلكان نظرة ايجابية للمستقبل.