&

&
تُسمي الشاعرة ريف حوماني دلالاتها بيقين تعبيري آخر، فالشاعرة تطلق مخيلتها لتذهب بعيدا في تشكيل نصوصها وعباراتها الشعرية. هي لا تتوقف عند المتاح والمعهود، ولا تقدم مضامين مألوفة، أو تنشئ نصوصًا تعنونُ تجربتها بشكل طيع مباشر، لكنها توغل في استقصاء حالاتها، وتقوم بعملية تضمير للغة، كما تُضمّر الخيول فتصبح اللغة الشعرية مكتنزة بكثافتها، لا مجال فيها للترهل، أو الاستطراد. الشاعرة هنا شاعرة استقصاء وتعميق، لا شاعرة استطراد وإطناب.&
هذا ما يمكن أن يعثر عليه القارئ دلاليا منذ الوهلة الأولى لقراءة نصوص ريف حوماني، في ديوانها:" لاشيء يُشعر اللغة بالكفاية سوى الموت" ( دار أمل الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى 2016 )&
يتشكل الديوان من (40) قصيدة، مترعة بالاحتمالات والتآويل وحافلة بالدلالات. الشاعرة ريف حوماني لا تتوقف عند الآفاق الشعرية الطيعة، كالأوصاف الوجدانية أو الرومانتيكية البسيطة، لكنها تجترح وتسنّ أسئلة الكلمات، لذا فإن &مضامين قصائدها ، تركز على المكنون، والمخبوء، والمسكوت عنه، في المشهد الإنساني حتى إنها تتناول الأسئلة الإيروتيكية والميتافيزيقية بشكل مختلف يتمثل في مزجها بما هو أسطوري ولغوي وتاريخي ، بحيث تنتج عن ذلك عناقيد من الصور لها أبعاد، ولها تأويلات وقراءات لا تتكئ على ما هو مباشر بل على ما هو إيمائي ورمزي.&
وتشكل البنية الزمنية من وجهتها الدلالية فضاء أمثل من فضاءات الخطاب الشعري لدى ريف حوماني، إنها ترتكز على الاشتغال على هذه البنية في ضمير النصوص ووعيها، وهي لا ترى إلى الزمن على أنه زمن معياري سيمتري يقاس بالمواقيت المعهودة، لكنها تنظر إليه بوصفه حالة كونية يسبحُ فيها الإنسان بطرفيه: الجسد والروح، ويبتكر فيه تأملاته كأنه أفق طليق للسكنى والدهشة والسؤال والحضور والغياب معا.&
تستهل ريف حوماني ديوانها بقصيدة :" الأربعون"/ ص.ص 21-25 &وهي قصيدة من الطراز التعريفي الذي يصفُ ويسمُ ويسمي، حيث تتكرر دلالة (الأربعون) زمنيا، من مقطع لمقطع ومن مشهد لمشهد آخر. &
الأربعون
هو العمر المتمادي ضحوًا
في الغرق الميمون
إلى نهايات الحسن
أو النجاةُ على غصن حياء
يوم القيامة.
&
هو أن تستفيق
لتغسل على جسدكَ
صباحًا عاجزًا
وأن تنامَ
لترقعَ في نسيجكَ الممدّدِ
ثقبين من تلف &.&
&
تستمر التعريفات المتتالية عبر التوصيفات الخبرية بضمير الغياب (هو) وهي توصيفات تستشعر الحس التصويري لدالة الزمن باعتبارها دالة مفتوحة طليقة، يعاد فيها تلقيب الأشياء وتسميتها خارج أي حد أو مدى :
هو أن تعبّ الرحاق
من ذروة كأس
عبق الهاوية فيه رحراحٌ
بفيض أنوثة ضحوك
وأن تتعاقب صولاتُ الروح
فيك
وصولاتُ الجسد
ولا تدري أيهما
استشاط من غمدكَ
كوثبة ظبي
نصل السكرة أم الصحو ؟
وتشكل تكرارية التعريفات في القصيدة كالتالي:هو العمر المتمادي ضحوا/ هو أن تمضي وفي عينيك النجم الأغر/ هو أن تستفيق لتغسل على جسدكَ صباحا عاجزًا/ هو أن يصهل فرس الجنون/ هو أن تمس بملء راحتيكَ خوابي حنين/ هو أن تعبَّ الرحاق من ذروة كأس/ أن تقيم بين المطر والندى/ هو أن يهدر النّضجُ والنصحُ/ أن تمضي قدما في وحدتك.&
بعد هذه الجملة من التعريفات والتسميات يصل التوصيف إلى الوحدة، الوحدة التي تشتعل كالنار لتذكّر بما فات. الوحدة والذكرى حالتان متوترتان قد تكون للأمل أو للندم.&
&
حياةُ الموت:
هل يحيا الموتُ شعريّا؟&
الشعرُ ربما برؤية وجودية ملهمة، ممتزجة برؤية صوفية وفلسفية قد يجد في الموت إكمالا للحياة، فالناس في غفلة فإذا ماتوا انتبهوا. – حسب مقولة صوفية - هو الانتباه إلى حياة أخرى، وهذه الحياة تجمع النقيضين معا، ولذا فإن هذين النقضين يخلقان بعضهما بعضا، ويولدان حالات درامية متضادة متكاملة معا.
الشاعر بالتأكيد يكون في غبطته القصوى أنه جمع بين ما لا يجمع، لأنه يقف حائلا ضد فكرة الغياب النهائي، وضد عدمية الأشياء وعبثيتها. إنه يسريلُ آفاقه ويخلقها من جديد. تصبح هناك حياة أخرى وبعث آخر طالع من بصيرة المخيلة وتأملاتها.&
إن الموت يشكل فضاء آخر بديوان ريف حوماني، ويكفي أنه يُشعر اللغة بالاكتمال والكفاية. حسب تسمية الديوان.&
وتدور عدة قصائد في أفق الموت بشكل مباشر عبر تسميتها أولا، مثل:" أأموتُ قبل أنْ ؟! ... " / ص.ص 26-28 أو :" نشيد الموت" / ص.ص 31-36 ، أو " الساحر لم يقتل بعد" / ص.ص 138-147 &
وتضمن الشاعرة هذه الرؤية الموتية- الحياتية – إذا صح التعبير المتقابل- في جملة من المشاهد والإشارات التصويرية داخل عدد من القصائد، بحيث تشكل منظومة مكثفة من التعبيرات التي تعمل على إحياء الموت والتأمل في مكامنه وجوهره ودلالاته.&
في :" نشيد الموت" تمثيلا، نجد حياة الموت أكثر تجليا ، حيث يتحول الفناء إلى حضور، وحيث يتجسد الموت ليصبح جسدًا متحركا، له حضوره المتشخص، وله حواسه التي يرى بها ويدرك بها الأشياء. الموت دالة تتحور عن معناها المألوف لتفتح أفقا للانهائي، الموت هو العذاب، العقاب، الغضب، الثقل، الخفة، الطفف، العجلُ، الموت الذي يمتزج بالعناصر ويحيا بها، الموت الموصوف دائما، &تصوغ فيه الشاعرة رؤاها المطلقة:
هذا الموتُ لم يعدْ جسدًا يسترخي بيني وبينك
حمل دمه وسقط في المرايا&
ظهرهُ بصيصُ حائط مفتون
وقلبه يزدادُ اندلاعا
&
هذا الموتُ ليس ركيكا
يمكنه أن يرمش على جفنيك حتى تجحظ
حمرتُه، وأن يبكي في عينيّ أربعين عاما
من دون أن يسيل
&
هذا الموتُ ليس ركيكًا
يمكنه أن يرصّ زفره تحت إبطك
في ذاكرتك، وأن يحك فخذي بفخذه أربعين عاما
من دون أن يسيل
&
هذا الموتُ&
يمكنه أن ينقسم إلى أجسام
أن يكون في النار
والهواء
والماء
والتراب&
والموت لا يشعر اللغة وحدها بالكفاية كما تقول الشاعرة، ولكنه يُشعر بالنصر كذلك، حسب ما تعبر الشاعرة في قصيدتها الطويلة :" حصان الحنين" ( ص.ص 151- 175) ، ولعل في تكرار دالة (الموت) بهذا الشكل الكثيف في الديوان ما يشير إلى أنه لا يحضر هنا بمعناه الفيزيقي ولكن بمعناه الروحي الذي يسمي حياة أخرى، ويضع رؤى ضدية للنهايات أو الغياب أو العدم. فالموت – طبقا للصياغات التصويرية لدى الشاعرة – كفاية، ونصر، وحياة:&
أنا للقبور المنسية أنا
ولحبيبي هناك هبة دمع ينهض إليها القلب
متقطعا فوق نعشي أنا&
مُعنَّبة في بطون الأرض دمعته
لا أظمأ فيها ولا أعرى أنا
أعرّشُ معها كالأحرار
وأغمدها في مرايا النصر
مرايا الحبّ
مرايا الحكاية
وأنسى من أنا
لا شيء يُشعرني بالنصر سوى الموت
وهذا الموت الجميل لي أنا
وكل وجع الأرض لي أنا
مدوا لي أكفان الشعر كي أستريح
مِنْ : أنا&
&
اللغة والذات و الاستقصاء:&
تبتكر ريف حوماني أساليبها الشعرية الخاصة بنسيج قصيدتها عبر الإيغال في متابعة الدلالة التي تنتجها رؤية نصية معينة، حين تستقصي دلالات الذات وتحولاتها لا تقف عند وجه &أحادي من التصوير لكنها تنتهك بنى، وتحاور هواجس، وتفض كينونة مخيلة ، مرتكزة على جملة من الآليات التعبيرية تتمثل في تدفق الوعي العباري من جملة لجملة، وفي استثمار العناصر اللغوية التي قد تقتضي منها اصطفاء كلمات بعينها لابتكار الجديد. إن الشاعرة توغل في تطريز نصوصها وتوشيحها بكلمات ربما لا تكون مألوفة شعريا مثل: ( تُقهمُ/ نضائض/ تقرمط/ نفاطير/ تترنده/ شاحوط... إلخ)&
كأن هذه الكلمات تعطي عمقا أبعد لجملتها الشعرية وتطرزها بغرائبية الدال لا حوشيته بالضرورة. تنتبه ريف حوماني كذلك &إلى استعمال بعض المسميات النحوية كالضمة والفتحة والفاعل والمفعول به لخلق بعض الصور التي تحاذي اللغة وتحاورها. كما تؤثر تكوين جملها الشعرية عبر أجواء تكسر العادي إلى المدهش واليومي إلى الأسطوري، والمألوف إلى الغرائبي. وفي فضاء التشبيهات تصنع ريف حوماني مشهدية شعرية باذخة،&
تقول – تمثيلا- في قصيدة:" قمع العزلة" :
كسوقٍ قائمة
كدُجيةٍ من الآهات
كحلاوة سمّ يتجمّعُ في السديم
كحبٍّ تقاويناه وتعمّدناه على شفير هاوية
كشغف يقوم للهواء قانتا ويمسك عن الكلام
كتمدد أعضائي عند امتلائها بأسان الفراغ
كخميس الفردوس الذي يتحسس أوهامي
ونهاياتي المشلولة
كإفرازات تُخرجُ قضبانا من الشوك من أمعائي
وتشتهي فحلا من فحول الفقدان&
هكذا يُحملُ الوجعُ على الوجع . / ص.ص 81-82&
فهذه التشبيهات المتتالية تصنع مشاهد أيقونية باذخة، حيث يتنقل القارئ من صورة لصورة ومن أفق لأفق، ويظل منجذبا دلاليا عبر تساؤل خفي:" ماذا بعد" حتى نهاية المقطع لتجيب الشاعرة: " هكذا يُحملُ الوجع على الوجع" . هذه الجمل ملمومة بفعل آلية التشبيه، وبفعل المكونات المُصاغة التي تتأدى من أفق لأفق من السوق إلى الآهات إلى السديم، ومن الهاوية إلى الهواء إلى الأعضاء ومن الفردوس إلى قضبان الشوك، في شره باذخ لاستيلاد صور مدهشة من الصغير إلى الكبير إلى اللا متناهي في الكبر. الشاعرة بهذه المجاورات اللفظية &تصنع عناقيد من الصور توشح جيد القصيدة وصدرها. وهي تؤدي ذلك بمهارة جمالية بينة من قصيدة إلى قصيدة.&
وتهتدي ريف حوماني إلى تشكيل بنى قصائدها بإيغالها الجمالي المبتكر في استقصاء الدلالة الكلية للقصيدة، بمعنى أن الإيقاعات الدلالية التي تتوهجُ في حالات الحزن أو الموت، أو الفرح، أو السفر، - تمثيلا- تشكلُ نوعًا من الكينونة المضمرة في الوعي، حيث تعملُ الشاعرة &على نسج آفاق هذه الكينونة وتوسيعها، واستقطار معانيها إلى أقصى حد ممكن.&
وتتشكل القصيدة لدى الشاعرة من جملة من المقاطع التي يفصل بينها فراغ أبيض، هي تصور لقطاتٍ ومشاهدَ ، تصورُ وقائعَ ومواقفَ ورؤى، تتضام مع بعضها البعض لتحمل كينونة القصيدة بوصفها كلا.&
والذات هي محور جوهري من محاور الديوان، وهذه الذات تصبو إلى إراقة مواجيدها عبر الكلمات، هذه المواجيد تنطوي على حالات من الحب والتأمل، وحالات من الحزن ومكابدة أشياء العالم. بل إن أشياء العالم تدرجُ في كينونة الذات نفسها، ليعاد تشكيلها وتكوينها من جديد.&
إن الرؤية الشاعرة للذات تجعلها تتشكل في عدة كينونات: الذات الرائية، الذات المرئية، الذات المنكسرة، الذات المتشظية، الذات الحالمة،&
ولا تستريح الذات الشاعرة كما تود الكلمات، ولا تستريح الذات من أناها &ولكنها تكابد وحشتها ووحدتها كذلك ، كما في القصيدة الموجهة للأب:" هذا العقمُ ليس لي " ( ص.ص 176- 182) التي تتوجه فيها الشاعرة للأب بأن يغيثها من واقع رديء، ويلتقط أحلامها التي كبرت شيئا فشيئا، كما في هذا المشهد: &
كلما خلقني الله امرأة جميلة امتطيتُ الريحَ إليكَ
أتجنّحُ في سماء قتلتْ عصافيرها
أندسُّ في سرير رجل
أصفرُّ في أوردة مخدة ، أدجُّ بركانا
أرصفُ جبالًا
أقطّبُ سيوفًا
من حولي
أبقى وحيدة !
وهكذا تصل ريف حوماني إلى تعبيرها الأبعد الذي يعيد إحياء الموت بتأمل شعري، ويخصب أسئلة الذات ويترك العنوان ونصوص الديوان، وما تنطوي عليه من إشارات مفتوحة أكثر للتأمل النقدي القارئ وللتأويل الذي تعصف به دلالات شعرية متعددة .&
&