الاولمبياد العشرون في مدينة ميونيخ البافارية، في ألمانيا القوة الاقتصادية والشعب المجتهد الذي أزال عنه آثار الحرب العالمية الثانية المدمرة. شعب بدا سعيدا وهو يحتفل بالعالم الاولمبي، وتيمنا بالمناسبة أطلقت اللجنة المنظمة تميمة الدورة "وولدي".

أقيمت الألعاب من 26 آب/أغسطس إلى 10 أيلول/سبتمبر بمشاركة 7234 رياضيا بينهم 1059 لاعبة من 121 دولة، فكانت الأضخم في كل شيء، وتفادت الدورة مقاطعة الدول الأفريقية بعدما منعت روديسيا التي تنتهج سياسة التمييز العنصري من الحضور، وكانت أعلنت مسبقا أنها ستوفد 30 مشاركا ما أثار الحفيظة الأفريقية.

ومن الدول الجديدة التي حضرت للمرة الأولى، ألبانيا وفولتا العليا والغابون وداهومي وكوريا الشمالية وليسوتو ومالاوي والسعودية والصومال وتوغو.

وشملت المنافسات 172 مسابقة في 21 لعبة هي: ألعاب القوى والتجذيف وكرة السلة والملاكمة والكانوي-كاياك والدراجات والفروسية والمبارزة وكرة القدم والجمباز ورفع الأثقال والخماسي الحديث والكرة الطائرة والرماية والقوس والسهم واليخوت.

وسجلت عودة لعبة القوس والنشاب بعد غياب 52 عاما، وكرة اليد التي سبق أن أدرجت في دورة برلين 1936، وكان يتألف كل فريق من 11 لاعبا.

وفي المحصلة النهائية، حل الاتحاد السوفياتي في المركز الأول برصيد 99 ميدالية بينها 50 ذهبية، مقابل 93 للولايات المتحدة (33)، و66 لألمانيا الشرقية (20)، و40لألمانيا الغربية (13). وجاءت الأرقام القياسية الجديدة وفيرة في ألعاب القوى والسباحة ورفع الأثقال فبلغت 46 رقما.

وحصد السباح الاميركي مارك سبيتز سبع ذهبيات، والاسترالية شاين غولد ثلاث ذهبيات. وجمع العداء السوفياتي فاليري بورزوف ثنائية ذهبية في 100 و200 م، والفنلندي لاسي فيرين ذهبيتي 5 ألاف و10 ألاف م. وتألقت السوفياتية اولغا كوربوت في الجمباز. وخسر الاميركيون للمرة الأولى ذهبية كرة السلة، بفضل رمية خاطفة للسوفياتي سيرغي بيلوف.

واكتفى العرب بفضيتين بفضل العداء التونسي محمد القمودي في سباق 5 ألاف متر، والرباع اللبناني محمد خير الطرابلسي في وزن المتوسط.

وأدت المرأة للمرة الأولى في تاريخ الالعاب قسم المتبارين، وهي لاعبة ألعاب القوى هايدي شولر، وبعدما كانت العداءة المكسيكية هنريكيتا بازيليو أول امرأة توقد شعلة الألعاب (مكسيكو 1968). كما اعتمد للمرة الأولى قسم للاداريين والحكام.

 كوماندوس فلسطيني 

وعاشت الدورة اكبر الاعتداءات الدراماتيكية في تاريخ الألعاب، فقبل ستة أيام من نهايتها وتحديدا في 5 أيلول/سبتمبر، قامت مجموعة كوماندوس فلسطينية مؤلفة من ثمانية فدائيين بمهاجمة القرية الاولمبية واحتجزت رهائن إسرائيليين مطالبة بإطلاق سراح أسرى في السجون الإسرائيلية.

وقتل إسرائيليان خلال الهجوم، وعندما كان الفلسطينيون ينتقلون مع رهائنهم إلى مطار فورستفيلدبروك العسكري ليستقلوا الطائرة إلى القاهرة في ضوء المفاوضات التي أجرتها معهم الحكومة الألمانية ووسطاء، تدخلت الشرطة وتعرض الفدائيون والرهائن لنيران القناصة، فاندلعت مواجهة أسفرت عن مقتل 18 شخصا هم تسعة إسرائيليين وخمسة فلسطينيين وشرطي وقائد طائرة مروحية وألمانيين.

وأوقفت الشرطة الفدائيين الثلاثة الذين بقوا على قيد الحياة وأطلقت سراحهم بعد عملية خطف طائرة في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1972.

وفي اليوم التالي للهجوم، أعلن رئيس اللجنة الاولمبية الدولية آنذاك الاميركي افري برونداج أمام 80 ألف متفرج جملة ستبقى خالدة في الأذهان "يجب ان تتواصل الألعاب الاولمبية".

وتعرض في ضوئها لانتقادات حادة. واستؤنفت المسابقات، علما أن رياضيين من الفيليبين وهولندا والنروج غادروا بعد الحادثة.

وجاءت خطوة برونداج على خلفية أن الألعاب الاولمبية يجب أن تبقى راسخة ولا يجوز أن تذهب جهود من تحضر أربعة أعوام هباء ولا مكان للسياسة في الرياضة. واعتبر المناهضون أن الألعاب هي احتفال وعيد فرح "ولا يجوز أن يستمر عندما يلطخ بالدماء. ففي الماضي كانت تسود الهدنة في موعد الألعاب".

وكان برونداج (مواليد 1887) الثري الاميركي صاحب شركة هندسية اشتهرت ببناء ناطحات السحاب في شيكاغو "يحكم" اللجنة الاولمبية الدولية منذ 20 عاما. وفي اختتام دورة ميونيخ سلم مقاليد السلطة إلى الايرلندي مايكل موريس كيلانن أو اللورد كيلانن الصحافي السابق والمنتج السينمائي.

وسبق لبرونداج نجم المسابقة العشارية في الجامعات الاميركية عام 1905، ان خاض الألعاب الاولمبية في دورة استوكهولم عام 1912 وحل خامسا، وهو ترأس اللجنة الاولمبية الاميركية عام 1929، وانتخب نائبا لرئيس اللجنة الدولية عام 1946. وعرف بحبه لجمع الأثريات والمقتنيات الفنية من الشرق الأقصى، وتحتوي مجموعته على أكثر من 6 ألاف قطعة ثمنها ملايين الدولارات.

 بين الهواية والاحتراف 

وعلى الصعيد الاولمبي، كان برونداج مناصرا "أرثوذكسيا" للهواية حارب المد التجاري والإعلاني من منطلق أن الرياضة هواية وشغف أكثر منها باب للكسب المادي.

غير أن خليفته اللورد كيلانن بدا منفتحا منذ مستهل ولايته وأدرك ان العالم تغير كثيرا منذ محاضرة البارون بيار دو كوبرتان عام 1894 في جامعة السوربون ودعوته إلى إحياء الألعاب الاولمبية.

تولى كيلانن السلطة على مفترق طرق بين الانعزال والقوقعة كرمى لعيني الهواية وبداية "العولمة" الرياضية معطوفة على دور المال وكبر حجم الألعاب وارتفاع عدد المشاركين فيها ومسابقاتها. وبدأ يلمس ان ذلك يولد مشكلة من ناحية ارتفاع التكاليف التنظيمية إضافة إلى الأهداف السياسية التي أدلت بدلوها في هذا المعترك، وتفشي المنشطات "سرطان الرياضة" وفي عهده ارتفع عدد اللجان الوطنية في اللجنة الدولية إلى 142 لجنة.

نظمت ميونيخ، ومن خلفها ألمانيا كلها، الألعاب الاولمبية مقدمة للعالم منشآت غاية في العصرية والفخامة وفي مقدمها الاستاد التحفة بسقفه البلاستيكي الشفاف، ومحيطه الأخضر وهو كناية عن ثلة اصطناعية هي حصيلة أطنان من الردم الذي خلفته في المنطقة الحرب العالمية الثانية.

وكانت المناسبة التي استقطبت الحشد الإعلامي الأكبر حتى تاريخه في الألعاب، تستأهل المقارنة بين المدينة البشوشة التي تحتضن شباب العالم، وبرلين عام 1936 حين أقيمت الدورة تحت الحراب النازية. وكثر من الذين عايشوا ألعاب برلين حضروا وتذكروا. وازدهرت السوق السوداء في مناسبة حفلة الافتتاح بعدما نفذت البطاقات، وامتلأت فنادق ألمانيا كلها، وبعضهم أقام في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.

وحمل العداء الألماني غونتر زهان الشعلة الاولمبية وجرى في الاستاد محاطا بعدائين من القارات الأربع الأخرى هم الاميركي ريوان والإفريقي كينو والياباني كيميهارا والاسترالي كلايتون.

- سبيتز يحقق وعده -
بدأت الألعاب، وسطع فيها نجم السباح الاميركي مارك سبيتز بدءا من 28 آب/اغسطس، حيث بدأ يحقق الوعد الذي قطعه على نفسه قبل أربعة أعوام في مكسيكو إذ اعلن "أنا أسوأ سباح الآن وسأكون الأفضل في ميونيخ".

فاز سبيتز في سباق 200 م فراشة مسجلا زمنا مقداره 7ر0ر2 د محطما رقمه الشخصي بثانية كاملة. وفي اليوم عينه أسهم في تحطيم الرقم العالمي للتتابع 4 مرات 100 م (42ر26ر3 د).

وفي اليوم التالي، فاز سبيتز في سباق 200 م حرة محققا رقما عالميا جديدا (78ر52ر1 د). وتوالت الانتصارات في 100 م حرة (22ر51 ث رقم عالمي) والتتابع 4 مرات 200 م والتتابع 4 مرات 100 م متنوعة و100 م فراشة (27ر54 ث رقمان عالمي واولمبي).

قطف سبيتز (22 عاما) سبع ذهبيات بفضل أسلوبه المميز في العوم "فوق المياه"، وكأنه "غيمة تتحرك وتتقدم بسرعة".

وتميز ذلك الشاب القادم من هونولولو حيث تعلم فن العوم، قبل أن يتألق في كاليفورنيا ويصبح غريما كبيرا للبطل الاولمبي السابق دون شولندر، بطاقته الكبيرة في التنفس وسرعته الانقضاضية النهائية والقوة الخارقة في رجليه.

وعند السيدات، فازت الاسترالية شاين غولد (15 عاما) وحصدت ذهبيات 200 م حرة (56ر03ر2 د) و400 م (04ر19ر4 د) و200 م متنوعة (07ر23ر2 د) معززة أرقامها العالمية، إضافة إلى برونزية 100 م وفضية 800 م. غير أن والديها رفعا الصوت إحتجاجا على استغلالها "وكأنها ماكينة لحصد الميداليات من دون أي إعتبار أو مراعاة لصغر سنها أو لأنها كائن بشري قبل أي شيء آخر".

وفي الأول من أيلول/سبتمبر قدم الاتحاد السوفياتي نموذجا جديدا في الجري السريع يدعى فاليري بورزوف، الذي خطف الفوز في سباقي 100 م (14ر10 ث) و200 م (20 ث). عداء يجري كجبل جليد لا تظهر التعابير والمشاعر على محياه. لكن يقال انه استفاد من غياب المرشحين الاميركيين هارت وروبنسون اللذين لم يخوضا الدور ربع النهائي إذ لم يعلمهما إداري الفريق الاميركي بتعديل موعد السباق!!.

ولان الاميركي رودني ملبورن كان الأقوى في سباق 110 م حواجز، كان من المنطقي أن يحرز اللقب، وتلاه الفرنسي غي درو الذي بات أول أوروبي يخرق السيطرة الاميركية على هذا الاختصاص منذ 25 عاما، وفيه تغلب الفرنسي على بطل دورة مكسيكو ويلي وايفنبورت وتوماس هيل.

واستعاد لاس فيرين تقليدا فنلنديا في المسافات الطويلة دشنه كولهاماينن وسار على دربه نورمي وريتولا وآخرهم سالمينن عام 1936.

سقط فيرين من دون سبب واضح في سباق 10 ألاف م عندما كان في المركز الخامس، وتسبب في عرقلة التونسي القمودي، ثم نهضا وتابعا السباق. وأكمل فيرين حتى النهاية وفاز محطما الرقم القياسي للسباق (4ر38ر27 د) وانسحب التونسي بعد لفات قليلة، لكنه حل ثانيا خلف فيرين في سباق 5 ألاف م (4ر27ر13 د مقابل 4ر26ر13 د).

وأحرز الاميركي فرانك شورتر المولود عام 1947 في ميونيخ سباق الماراثون في اليوم الأخير من الألعاب مسجلا رقما اولمبيا جديدا (8ر19ر12ر2 سا)، وتوجه برونداج قبل أن يسلم مقاليد الرئاسة. وحل الإثيوبي مامو وولدي بطل مكسيكو ثالثا.

ووصفت " ميونيخ 1972" بدورة الرياضيات الحسناوات، ومنهن الألمانية هايدي روزنتال بطلة الوثب الطويل (78ر6 م) التي تغلبت بفارق سنتيمتر واحد على البلغارية ديانا يورغوفا، وهي بذلك منحت بلادها الذهبية الأولى في الألعاب.

وفي الوثب العالي، تنافست ثلاث جميلات هن الألمانية اولريكه مايفرت والكندية ديبورا بريل والنمسوية ايلونا غو سنبوير. وكان الرقم الاولمبي مقداره 82ر1 م، والعالمي 92ر1 م، وهو الارتفاع الذي تجاوزته مايفرت وهي في سن السادسة عشر لتصبح أصغر بطلة أولمبية في "أم الألعاب".

أما سباق 1500 م الذي يعتمد للمرة الأولى عند الجنس اللطيف، فكان من نصيب السوفياتية لودميلا براجينا (4ر01ر4 د).

وخطفت السوفياتية اولغا كوبورت (17 عاما) القلوب وثلاث ذهبيات وفضية في الجمباز، ومواطنتها لودميلا تورتيشيفا ذهبية المسابقة العامة، وتميزت البطلتان وتامارا لازاكوفيتش فسيطرن على لقب الفرق.

- سلة جدلية -
غير ان الانتصار في كرة السلة على البطل التقليدي الولايات المتحدة وبفارق نصف سلة وفي الثانية الأخيرة (51 - 50) يبقى الاهم بالنسبة للسوفيات في مباراة نهائية لا يزال يسيل جدل كثير حولها، ولا سيما في ما يتعلق بثوانيها الثلاث الأخيرة الإضافية التي احتج الاميركيون طويلا عليها.

"ميونيخ 1972" ألعاب مشرقة عكرتها غيمة سوداء، ومحطة شنت خلالها اللجنة الاولمبية الدولية حربها على المنشطات وكلفت الأمير البلجيكي ألكسندر دوميرود بالمعركة لكبح جماح السباق بين التحاليل الضابطة وحملات التوعية وفبركات المختبرات وطرقها الجديدة المتطورة، والمستمرة حتى تاريخه.

ولا ننسى ان السباح البلجيكي ريك دومونت الذي كان يعاني أساسا من الربو أقصي من نهائيات سباق 400 م حرة بعد إكتشاف تناوله عقار "ماراكس" المهدىء الذي يحتوي على منشط الايفدرين المحفز. فبات أول متنشط اولمبي بهذه المادة.