بعد سنتين من الثورات الديمقراطية، بإمكاننا أن نتأمل واقع الحكومات الجديدة، وشكل الدولة الذي أفرزته الثورات. لا تكفي سنتين لتقديم تقييم شامل وعميق، لكن بوادر المستقبل بإمكاننا أن نراها في الحاضر أيضا لما يتعلق الأمر بمستقبل المجتمعات.
لعب الصراع بين الفلسفة الفردية والسلطة دورا كبيرا في ظهور الحكومات الديمقراطية في الغرب، فديمقراطية أثينا لا تشترك مع ديمقراطية دو توكفيلAlexis de Tocqueville الليبرالية سوى في الاسم. لكن النضال من أجل الحرية لم يكن ليرى النور لو لم يقتنع الفلاسفة السياسيون بأن الديمقراطية لم تكن سوى آلية لتوزيع السلطة، وأن هذه السلطة تحتاج بدورها لشكل جديد من المؤسسات والقواعد يحد منها ويمد من حرية الأفراد بشكل غير محدود ليصبحوا أسياد اختياراتهم.
لكن أين نحن الآن من هذا النقاش في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟
ما يزال الحديث عن الحرية محتشما إن لم يكن غائبا تماما عن المناقشات العامة. بل يغيب حتى عن خطاب من قادوا هذه الثورات العظيمة في كثير من الأحيان. وهناك من يخلط بين الحرية التي يتغنى بها الشعراء والحرية السياسية للأفراد. لسنا في حاجة لأدلة كثيرة كي نبين أن أكثر المفكرين والكتاب جرأة في منطقتنا يطالبون بالديمقراطية بدل الحرية وبالكرامة بدلا من دولة القانون. وهذا يعد نقصا فظيعا في الوعي السياسي للنخب الجديدة، نقص يجب أن يتم تداركه.
لا يعدو انهيار الأنظمة الديكتاتورية أن يكون سوى مؤشرا عن فراغ كرسي السلطة. علينا إذن ملؤه بإجلاس حاكم جديد. هذا بالذات ما فتح الباب على مصراعيه أمام صراع شرس حول امتلاك الدولة. كان علينا أن نصارع الدولة لا أن نتصارع حولها، أن نصارع من أجل الحرية لا أن نصفي صراعاتنا على حساب الحرية. في فكرنا ما تزال الدولة صنما لا يقترب أحد من تحطيمه، بل لا يجرؤ أحد في هذه الأيام على كشف فساده وطغيانه كيفما كان من يجلس على كرسي حكمه.
كان حظنا عاثرا في هذا المنعطف الفاصل بين تاريخين؛ تاريخ الاستبداد وتاريخ الثورة على الاستبداد. بين زمنين؛ زمن الجمود وزمن الثورة عل الجمود. بين إنسانين؛ إنسان خانع مُستَعبد وإنسان ثائر. كان حظنا عاثرا، لأن الديمقراطية لم تضع على كراسي الحكم سوى أحزابا تؤمن بقوة الدولة، بل تؤمن بفكر بنائي متصلب متشدد مع حرية الأفراد.
كان تاريخ الإسلاميين تاريخ انتظار طويل للانقضاض على كرسي الحكم، بل كان أيضا تاريخ تحالف مع العساكر للوصول إلى الحكم، في تجارب لا تنساها الذاكرة ولا تخطؤها العين. لكن يحصل الأمر الآن بطريقة ديمقراطية، وبواسطة صناديق الاقتراع. ما سيتغير إذن هو المظهر لا الجوهر، لون الجالس على كرسي الحكم لا هويته.
لا يجب علينا أن ننتظر طويلا قبل أن ننشغل بتصحيح فكرنا السياسي وإنقاذه من براثن وشرك الدولة. إذ في اللحظة التي تضغط فيها القوى الرجعية على الحكومات الجديدة لتوزيع العطايا على الفقراء وأفراد الشعب البائسين، سنفوت علينا جميعا فرصة وضع أسس دولة الحق والقانون، التي تعد الصيغة الوحيدة من الدولة التي تكفل الحرية لأفرادها، الصيغة الوحيدة التي تتوفر حقا على القدرة على إطعام الجوعى والقضاء على الفقر.
أليس غريبا أن تتنافس الحكومات الجديدة التي قيل أنها حكومات ديمقراطية مع الحكومات المستبدة على توزيع الأموال والمساعدات على المواطنين لا على إرساء مبادئ دولة القانون؟ إنهم يريدون أن يزرعوا وهما خاطئا بأن الثورة إنما هي بنت الجوع والفقر !
لكن من صنع الفقر؟ ألم يصنعه الاستبداد والظلم؟ أين ينتشر الفقر المذقع في العالم؟ أليس خاصية تتميز بها الأنظمة الشمولية الديكتاتورية عن غيرها؟ إنك لما تستبد بالناس وتحطم حريتهم إنما أنت تمنعهم من حقهم في التملك وفي الفعل وفي التبادل، ويتحول الاقتصاد الذي يقضي على الفقر إلى وسيلة في يد الديكتاتور، يراكم بها الثروات ويغدق بها الأموال على المقربين والخدام والمتزلفين والمشاركين المشركين.
أي تهويل للجانب المادي لثوراتنا سيضيع علينا فرصة التمكين للحرية، التي تعد الفضيلة التي تستحق أن يموت الإنسان من أجلها حقا. إني مستعد أن أناضل من أجل حريتك، لأنها هي وحدها فقط من سيمنحك الفرصة الحقيقية للقضاء على فقرك وعوزك وتمنحك القدرة على تحديد اختياراتك ومستقبلك ونشر أفكارك.
نحن إذن في حاجة لأفراد أحرار يدافعون عن حرية الأفراد أمام السلطة. موهوبون يتوفرون على قدرة التمييز بين دولة الحرية ودولة الإكراه. ذوو مهارات عقلية وسابقون لتاريخهم يضعون المستقبل فوق كل الاعتبارات التي يغرق فيها سياسيو اليوم الذين يلجؤون لكل الحيل والدسائس من أجل الوصول لكرسي الحكم وإعادة إنتاج النظام القديم بأسماء جديدة.
الدولة التي يحكمها فرد أو حزب ليس دولة قانون، إنما هي دولة إكراه واستبداد وطغيان. الفرق في درجات الاستبداد لا يجعل من نسخة من الاستبداد معادلا للحرية. ليس بإمكاننا أن نساوي بين حاكم يجعل من تطبيق القانون وظيفته الوحيدة وحاكم يوهم الأفراد أنه سيعمل من أجل فك مشكلاتهم المادية بطريقة أخرى غير إرساء أسس دولة حكم القانون.
ليست للحرية من دولة غير الدولة التي تحفظ تطبيق القانون. متى استعبدتم الناس وقد ولدوا أحرارا !
- آخر تحديث :
التعليقات