مع نهاية ديسمبر 2010 دق الشعب التونسي آخر مسمار في نعش الديكتاتورية العربية، التي أحكمت قبضتها الحديدية لزمن طويل على أجيال متعاقبة من المجتمعات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وسرعان ما انتقلت عدوى التحرر لتعبر الحدود التي اصطنعها الاستعمار والديكتاتوريات القمعية لفصل شعوب تربط بينها روابط ثقافية ووجدانية، ويجمعها أيضا توقها للحرية والديمقراطية. في أقل من بضعة أسابيع فقط اندلعت ثورات عظيمة في كل مكان، حتى أن أغلب الديكتاتوريين بدؤوا يتحسسون قرب نهايتهم، وبدوا مرتبكين يتصرفون بجنون وعجرفة ودموية سرعت ببعضهم خلال شهور لا سنوات.
من كان يظن أن هذه الديكتاتوريات البوليسية الصلبة إنما هي أنظمة هشة إلى هذا الحد؟ من كان يضع في حسبانه أن هذه الديكتاتوريات الفظيعة، المدعمة بالجيوش والبوليس والمخابرات والتي تتلقى كل أنواع الدعم والمساندة من حكومات الدول الكبرى، ستتهاوى تحت الضربات السلمية والمدنية والتحررية لشعوبها؟
مرت الآن سنتان من الثورات المتقدة المستمرة. يبدو من خلالهما أن شعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط لم ترو ظمأها بعد من الحرية والديمقراطية، ولم تتأكد بعد فعلا أنها وضعت الماضي الديكتاتوري الأليم وراءها.
حاول أغلب المثقفين الذين تجاوزتهم حركة المجتمع واندفاعها نحو التحرر من الاستبداد البغيض أن يتداركوا الأمر فيما بعد بمحاولة إرجاع الوضع إلى الوراء بزرع الشكوك في كل مكان، بتحليلات تخويفية مصدرها الرئيسي نظريات المؤامرة، وتحالفاتهم المستديمة مع الأنظمة القمعية. ولم يكن ينقصهم سوى ظهور الأصوليين المتشددين والإسلاميين على سطح الأحداث السياسية في كل بلد فتحت فيه صناديق الاقتراع أمام الناخبين. تحليلات مثقفينا العاجزة سرعان ما استهلكها الإعلاميون وكتاب الرأي وشريحة من الشباب ذوي المستوى التعليمي المتدني أو المتمذهبين بإديولوجيا يستعصي عليها تقبل التغيرات الثورية والذين يستحوذ عليهم الخوف من المستقبل المجهول. فدب اليأس والعجز في صفوف الأفراد، لكنه يأس سرعان ما يرتفع لما يتذكرون أن البديل عن مستقبل لا يمتلكونه ليس سوى القمع والديكتاتورية والفساد.
لم يكن الغرب محايدا تماما، فهو أيضا يخاف من أشياء كثيرة، وإن وجب أن نفرق بين شعوبه وحكوماتها. من يستطيع أن يجزم أن حكومات الشعوب المتمدنة لا تخاف من المستقبل وتقلب الأوضاع؟ لا أحد. لقد أبانت هذه الثورات أن النظام المؤسساتي العالمي يضلل الحقائق ويخدم مصالح الأقوياء أكثر من غيرهم. وهذا ليس ربما إلا تأكيدا لقناعة راسخة في أذهان كثيرين. لكن لا بأس، لقد حدث اختراق كبير بفضل إرادة الشعوب الثائرة أيضا، ففي اللحظة التي عزم فيها الديكتاتور القذافي على إبادة مدينة بنغازي اضطر الكبار لاتخاذ قرار بالتدخل وإيقاف المجرم الأحمق عن ارتكاب جريمة إنسانية، تحت ضغط الإعلام والرأي العام العالمي. من يتذكر القذافي الآن؟ لقد انتهى كأي مجرم، أما أولئك الذين أكلوا على موائده كثيرا فمنهم من تحسروا على ذلك، وتحولوا إلى مضللين يزعمون أن ثوراتنا ليست سوى صناعة الناتو(NATO).
إن هذا الاختراق التاريخي الذي اضطر بسببه الكبار إلى مساندة شعب تواق للحرية يجب أن يصنع مرة أخرى. بإمكاننا أن نضع الأنظمة الديكتاتورية أمام حقيقة العصر: ليس بإمكانكم ممارسة مزيد من الديكتاتورية، فشعوب العالم الحر ورأيه العام قادرون على مساندتنا من أجل التحرر من قبضتكم التي لا ترحم. لكن علينا أن نخلص المؤسسات الدولية من ثنائية الكبار/الصغار، فنحن أيضا لا نقل عنكم توقا الحرية.
في المجمل تبدو الأحداث متسارعة في أعين المراقبين. فالثورات مسحت نظاما كاملا في ليبيا، وأسقطت رأس النظام في تونس ومصر واليمن، بينما يترنح ديكتاتور سوريا تحت وقع أوضاع بلد يسير به نحو الدمار. ووضعت دساتير جديدة وأجريت انتخابات شبه حرة في بلدان لم تشهد أبدا انتخابات حرة في تاريخها. وجاءت حكومات جديدة، تعمل في حقل ملغوم بأجهزة أمنية عتيدة بناها الديكتاتوريون، وبذوي المصالح الفئوية المتشابكة، أولئك الذين لا يرون أبعد من مصالحهم الشخصية المتنطعة، هذه البقايا التي صنعت تحت أعين الديكتاتوريين تحاول إرباك الحكومات الجديدة واستغلال قصور تصورها لدولة الحق والقانون.
لكني كشاب خبئت له أقدار التاريخ أن يشهد هذه المرحلة العظيمة من تاريخ شعوبنا، علي أن أسأل نفسي: أليس أي نقاش حول دستور الدولة التي فتح في كل مكان في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ثورة في النقاش العام؟ ألا يضع هذا الواقع الجديد مستقبل مجتمعاتنا بين أيدينا لأول مرة منذ خروج الاستعمار ظاهريا؟
إنني سأكون خارج سياق عصرنا لو قلت أن هذه اللحظة التاريخية ليست لها أهمية تذكر. إن الدستور ليس مجرد وثيقة سياسية تعاقدية، بل هو نفسه روح وشكل المؤسسات السياسية، التي تعني أيضا مجموع القواعد التي ترسم العلاقات وقواعد اللعب بين الأفراد والمنظمات والحكومة في مجتمع من المجتمعات. لكني سأكون مغفلا لو أهملت حقيقة كبيرة: إن الدساتير الجديدة في أغلبها وضعها رجال لا يتمتعون بأي بصيرة تاريخية مستقبلية، ليسوا من طينة الفلاسفة الكبار ورجال التاريخ الذين يتركون وراءهم ذكرى وتاريخا ملهما.
إنه مكر التاريخ. ففي اللحظة التي نحتاج فيها لعقول كبيرة تستشرف المستقبل وتتكلم لغة الحرية، وجدنا أنفسنا أمام أولئك الصغار الذين لا يرون أبعد من مصلحتهم ومصلحة جماعتهم وحزبهم. وهذا بحد ذاته يجعل من القواعد التي ترسم اليوم، ومن المؤسسات التي تبنى مجرد قواعد ومؤسسات مؤقتة، فهي للإفلات من الماضي البئيس وليست لكسب المستقبل، الذي سنكون من خلاله أحرارا أو لا نكون أبدا.
كل دستور ومؤسسات جديدة لا تحترم قواعد الحرية (الحد من سلطة الدولة) والديمقراطية (التوزيع الديمقراطي للسلطة السياسية) واحترام ملكية الأفراد، محكوم عليها بالانهيار والفشل. لذلك، علينا أن نؤكد على مسألة أساسية: هناك شكل واحد فقط من الدولة قابل للحياة، هو quot;دولة الحق والقانونquot;، وهو النموذج الذي يسود فيه تطبيق قوانين عادلة بحياد على الجميع، إن quot;القانونquot; سيكون حاسما في مسألة عدد السنوات التي ستعشيها الأنظمة السياسية الجديدة في شمال إفريقيا والشرق الوسط قبل أن تغير من تفكيرها أو أن تتهاوى.
غالبا ما ترى الشعوب المستقبل ضبابيا، لكن شعوبنا ترى حاضرها ضبابيا وغير واضح تماما. فدخان الثورات يتصاعد في كل مكان، وشعوبنا تائهة بين ماضي تحكمه الديكتاتورية والفساد وبين لحظة تحرر لا تستطيع أن تقبض عليها لأطول فترة ممكنة قبل أن يقفز مغامر على ظهر السلطة ويسلب الناس حريتهم.
هل يجب علينا أن نلعن الثورة، ونرسم مستقبلا سوداويا، ثم نتوقف عن تحسين شروطه كأي أمة عاجزة؟ أم علينا أن نعيش هذه اللحظة على أنها لحظة عظيمة، ونستمر في تحسين شروط المستقبل، والتفكير بعمق في نوع المؤسسات السياسية والاقتصادية التي علينا ترسيخها في مجتمعاتنا؟
إني أنظر إلى المستقبل بتفاؤل وأسلك المسلك الثاني. فتعطشنا للحرية لن يرويه غير مزيد من الحرية. والأصولية المتشددة المتصاعدة في كل مكان لن تجعلنا نخشى ممن تأتي به الديمقراطية. علينا أن نتعلم الديمقراطية كأي تلميذ مبتدئ في أي فصل دراسي. لا بد لجيل ما أن يدفع فاتورة التعلم. ولنكن نحن من يدفع تلك الفاتورة، ولنحظ إذن بشرف عظيم بحملنا لأمتنا من ظلمات الجهل والديكتاتورية إلى فضاء التحرر والتنوير.
لما أنظر إلى الشباب الذي خرج في ميادين الثورة أرى بشكل واضح أن ما ينقصهم ليس سوى وضوح الرؤية وعمق الأفكار والثقة بالنفس، وتلك هي المهمة التي يجب أن يتولاها المثقفون والمفكرون. إن المستقبل الحر لهذه الشعوب لن يصنعه من أكل على موائد الديكتاتوريات القمعية لعقود طويلة، بل سيصنعه أولئك الذين سيتشبثون بالحرية والإنعتاق من شراك الاستبداد وقوة الأمل.
هل يستطيع ديكتاتور عربي جديد أن يحشد لنفسه أجيالا جديدة من الشباب تحييه وتسبح باسمه كأي طاغية يحتفظ له التاريخ بشرف اللقب؟ لا. لن يستطيع أي ديكتاتور أن يكتب الروايات القمعية المؤلمة مرة أخرى، فالتاريخ اتخذ مجراه الصحيح، ورغم كل المحاولات التي تصنعها بقايا الأنظمة الديكتاتورية، في تحالف مع الأصولية أحيانا وفي تحالف مع ذوي المصالح الفئوية أحيانا أخرى لإرجاع الأمور إلى الخلف، فذلك لن يجدي ولن يعمر طويلا. لهذا أرى المستقبل أفضل، ولهذا تقع على عاتقنا مسؤولية تحسين شروطه.
باحث اقتصادي في quot;المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانيةquot; بالرباط.