قلت وكتبت مرارا أنّ الحراك الشعبي الأردني المتواصل في الشوارع والساحات وغالبية المدن الأردنية، خلفيته في الأساس اقتصادية نتيجة للوضع الاقتصادي الصعب والحرج الذي يعيشه الأردن خاصة بعد وقف الغاز المصري وعدم الوفاء بالوعود الخليجية بدعم اقتصادي كبير، مما نتج عن ذلك قرار حكومة الدكتور عبد الله النسور رفع أسعار المشتقات النفطية، مما رفع سقف مطالبات الحراك الشعبي التي أثبت الأمن الأردني انضباطا عاليا في التعامل معه قياسا بما حدث في العديد من الأقطار العربية، وهذا ليس إلا نتيجة تعليمات عليا تعرف أنّ لهذا الشعب حقوق ومطالب من حقه التعبير عنها بالطرق السلمية التي سادت فعلا في غالبية الحراك الشعبي الأردني، وكانت قمة هذا الانضباط الإفراج عن غالبية من اعتقلوا على هامش هذا الحراك بمن فيهم من أحرق صورة الملك عبد الله الثاني ومن هتفوا بسقوط النظام، رغم الإعلان الصريح الواضح لجماعة الإخوان المسلمين وحزبها (جبهة العمل الإسلامي)، بحرصهم على استمرار النظام الملكي الأردني مع ضرورة إصلاحه، وهي جماعة أحببناها أم كرهناها، أكثر الجماعات والأحزاب وجودا وحراكا وتأثيرا في نسيج المجتمع الأردني، وبالتالي فهدفها هذا في رأيي هو المنطقي لأنّ النظام الملكي هو الوحيد القادر على أن يكون السقف الجامع لكافة مكونات المجتمع الأردني العشائرية وتنوع المنابت والأصول. ويكاد يجمع الأردنيون بمن فيهم رأس النظام أنّ ملفات الفساد هي من أهم مشاغل الشعب الأردني، بدليل أنّ النظام نفسه هو من أسّس منذ سنوات ما عرف ب (هيئة مكافحة الفساد)، لكن وبصراحة ظلت في سنواتها الأولى دون مستوى الهدف المرجو منها شعبيا، فجاء حراك الربيع الأردني السلمي ليحرّك آلية هذه الهيئة وتكون في مستوى اسمها على الأقل، فكانت البداية الحقيقية:
فتح ملف فساد محمد الذهبي،
الذي كان لسنوات المدير العام لدائرة المخابرات الأردنية، وهو المنصب الذي يعتقد غالبية الأردنيين أنّ صاحبه فوق القانون ولا يمكن أن يخضع لأية مساءلات،ورغم ذلك كانت مفاجأة مفرحة للأردنيين أن يبدأ تفعيل ومصداقية هيئة مكافحة الفساد بفتح ملفات فساد هذه الشخصية النافذة المتنفذة، فيصدر يوم الحادي عشر من نوفمبر 2012 الحكم على الفريق محمد الذهبي بالسجن ثلاثة عشر عاما وثلاثة شهور، وغرامة مالية مقدارها 21 مليون دينار أردني (حوالي 30 مليون دولارا) ومصادرة قيمة الأموال المغتسلة ومقدارها قرابة (34 مليون دولارا) بعد إدانته بكل التهم الموجهة إليه من اختلاس واستغلال للمنصب وغسيل الأموال. ومنذ صدور الحكم وهو يقضي فترة محكوميته في السجن،وتشير الوقائع والحيثيات المرافقة إلى أنّه سيكون سجينا عاديا كأي سجين، ولن يخرج لأي مكان آخر كما أشيع عن فترة محكومية مدير المخابرات الأسبق سميح البطيخي.
ثم فتح ملف فساد صهر العائلة المالكة،
وهذا الملف قمة المفاجآت في الشارع الأردني خاصة بعد أن رفع الملك عبد الله الثاني شعار ( لا أحد فوق القانون) وكان الشعب الأردني ينتظر تطبيقا فعليا واقعيا لهذا الشعار، فجاء هذا التطبيق الفعلي يوم السبت التاسع والعشرين من ديسمبر 2012 بصدور أمر مدعي عام هيئة مكافحة الفساد بالحجز على أموال quot;وليد الكرديquot; صهر العائلة المالكة وزوج الأميرة بسمة بنت طلال. وقد كان الكردي رئيسا سابقا لمجلس إدارة شركة الفوسفات بين عامي 2007 و 2012 ، وترقى شبهات فساده في عمليات بيع منتجات الشركة والشركات المملوكة لها بقيمة 300 مليون دينار أردني ، أي حوالي 430 مليون دولارا. وأعتقد أنّ الشارع الأردني وحراكه الشعبي المحق في مطالبه ينتظر الآن سرعة جلب quot;وليد الكرديquot; عن طريق الانتروبول الدولي من لندن حيث يقيم، لتبدأ محاكمته واسترداد أموال الشعب المنهوبة، وهذا سيعطي مصداقية جديدة وعالية لقيادة الملك عبد الله الثاني وحكومة عبد الله النسور، وتلبية لأهم مطالب الحراك الشعبي الأردني، لأنّ هذا سيثبت أنّ قرار تجميد أمواله قرار صادق سيسير نحو التنفيذ وليس مجرد ضحك على الحراك الشعبي الأردني، خاصة أنّ هناك دراسات وتقارير أردنية تؤكد أنّ مكافحة حاسمة للفساد واسترداد كافة أموال المفسدين المنهوبة من ثروة الشعب الأردني، سوف تسهم بشكل عال في تعافي الاقتصاد الأردني من الصعوبات التي يمرّ بها، نتيجة الفقر في الموارد الطبيعية التي لا تحتمل كل هذه السرقات المنهوبة لصالح قلة قليلة من الشعب انعدمت ضمائرهم ليثروا على حساب شعب بنى وطنا متميزا رغم صعوبة معيشته وفقر موارده الاقتصادية الطبيعية.
من الفاسد الثالث بعد الكردي وماذا عن رؤية الملك الإصلاحية؟
ولا تزال لدى الشعب الأردني ملفات فساد ضخمة أخرى ينتظر فتحها وجلب المسؤولين عنها بعد الانتهاء من ملف فساد quot;وليد الكرديquot; الذي ما كان أحد يتوقع فتحه والإعلان عنه بسبب مصاهرته للعائلة المالكة، وفي الوقت ذاته ينتظر الأردنيون ما أعلن عنه من اعتزام الملك عبد الله الثاني نشر رؤيته لعملية الإصلاحات السياسية في الأردن بالتزامن مع بدء الحملات الإنتخابية البرلمانية لمجلس النواب السابع عشر في الإسبوع الأخير من يناير 2013 التي ستقاطعها الحركة الإسلامية، رغم المنطق الذي يرى أنّ دعم الإصلاحات وتقوية المطالبة بها يأتي من خلال المشاركة وليس المقاطعة، فبالمشاركة تستطيع الحركة الإسلامية إسماع صوتها وتقديم رؤيتها للحكومة أيا كان عدد من وصل لقبة البرلمان منها، وفي انتخابات سابقة أوصلوا ما يزيد على 18 عضوا لقبة البرلمان، وأعتقد أنّهم لو شاركوا في هذه الانتخابات سيوصلوا أكثر من هذا العدد خاصة من خلال العدد المخصص للقائمة الوطنية والصوت الواحد. فلننتظر هذه الرؤية الملكية لمسيرة الإصلاح الأردنية لنرى هل ترقى لمستوى طموحات الربيع الأردني الراقي في سلميته والتعبير عن مطالبه خاصة الاقتصادية التي يعاني منها غالبية الشعب الأردني.
الأيام القليلة القادمة هي الحكم،
على ما ستسفر عنه الانتخابات البرلمانية الأردنية مترافقة مع مسيرة الحراك الشعبي، والمؤمل أن ينتهج الأردن قيادة وحكومة سياسة تلبي كافة مطالب الحراك الشعبي السلمي حتى الآن، وبهذا يؤسس لمسيرة عربية مفادها: أيها الحاكم رئيسا أو ملكا: ماذا تريد من هذه الحياة التي أيامك فيها معدودة؟ ماذا ستفيدك أموال منهوبة أو سكوت على فساد ومفسدين حتى لو كانوا قريبين منك؟ أليس حب الشعب واحترام رغباته وكرامته أفضل لك من كل هذا اللاقانوني وغير الشرعي؟. هل قرأ الحكام العرب وصية الإسكندر المقدوني الذي طبقت شهرته الآفاق وملك الشرق والغرب، هذه الوصية التي تقول أيا كانت صحتها ولكن فيها من العبرالكثير لكافة حكامنا. قال الإسكندر المقدوني لمساعديه كما روت العديد من المصادر عنه:
وصيتي الأولى: أن لايحمل نعشي عند الدفن إلا أطبائي ولا أحد غير أطبائي.
الوصية الثانية: أن ينثر على طريقي من مكان موتي حتى المقبرة قطع الذهب والفضة وأحجاري الكريمة التي جمعتها طيلة حياتي.
والوصية الأخيرة: حين ترفعوني على النعش أخرجوا يداي من الكفن وأبقوها معلقتان للخارج وهما مفتوحتان. سأله القائد الذي كتب الوصية: ماذا تقصد من هذه الوصايا وما هو هدفك منها؟ أجابه الإسكندر المقدوني: أريد أن أعطي العالم درساً لم أفقهه إلا الآن ، أما بخصوص الوصية الأولى ، فأردت أن يعرف الناس أن الموت إذا حضر لم ينفع في رده حتى الأطباء الذين نهرع إليهم إذا أصابنا أي مكروه ، وأن الصحة والعمر ثروة لايمنحهما أحد من البشر. وأما الوصية الثانية، حتى يعلم الناس أن كل وقت قضيناه في جمع المال ليس إلا هباء منثوراً، وأننا لن نأخذ معنا حتى فتات الذهب،وأما الوصية الثالثة، ليعلم الناس أننا قدمنا إلى هذه الدنيا فارغي الأيدي وسنخرج منها فارغي الأيدي كذلك.فمن يعي ويفهم ويستوعب ويمارس ويعيش هذه الوصايا ومغازيها من حكامنا العرب؟ متى يدركوا أنّ حبّ الشعوب لهم في حياتهم أفضل ألف مرة من سبّهم والدعاء لهم بالجحيم بعد وفاتهم التي لا مفرّ منها آجلا أم عاجلا!!!.
[email protected]
التعليقات