أثارت التعليقات على مقالي السابق بنفس العنوان مسألة غاية في الأهمية مما إضطرني للكتابة ثانية في الموضوع إستكمالا لجواب السؤال "ما العمل؟"، والظاهرة التي طغت على أغلب التعليقات السابقة خطيرة تستوجب الوقوف عندها والعمل على ايقافها لأنها ظاهرة قفزت من ميدان الإستخدام السياسي للقومية الى الميدان الإجتماعي وأصبحت واحدة من منتجات بناة النظام العرقي- الطائفي في العراق بعد 2003 وأقصد بذلك "التعصب القومي" الذي لم المسه عند أغلب الأكراد قبل هذا التاريخ وحتى السنوات الثلاث أو الأربع بعده، ولكنه تنامى بفعل الخطاب السياسي ذو البعد القومي عند بعض الساسة الأكراد شيئا فشيئا وتحول الى ظاهرة إجتماعية تمتطي التعصب القومي بخيلاء لا يختلف كثيرا عن خيلاء صدام حسين الموسوم من قبل نفس هؤلاء بالشوفيني والذي حفز قوى سياسية عراقية من مختلف القوميات والمذاهب لمحاربته جنبا الى جنب مع القوى الكردية في سبعينيات القرن الماضي وعلى سفوح جبال كردستان، ولكن حين سقط النظام، تكشف لبعض القوى السياسية العراقية التي صعدت مع البيشمركة جبال كردستان لمحاربة صدام ونظامه أملا في تغييره لصالح عراق خال من الدكتاتورية والتمييز العنصري، كأنصار الحزب الشيوعي العراقي مثلا،الى إن حلفاءهم من بعض القوى الكردية لم تكن تحارب صدام حسين من أجل العراق بل من أجل كردستان فقط، وليذهب باقي العراق الى الجحيم، وهذا ما أظهرته وكرسته السنوات التي تلت السقوط من الأداء والخطاب السياسي لتلك القوى والشخصيات السياسية الكردية من قبيل "كركوك قدس كردستان" و"منصب رئيس الجمهورية إستحقاق كردي" علما إن من أطلق هاتين العبارتين كان قد وصف تصريح طارق الهاشمي الذي هوأيضا أحد أهم الأبواق العنصرية -الطائفية في العراق "الجديد"بعد إنتخابات 2010 الذي قال فيه إن "منصب رئيس الجمهورية إستحقاق عربي" بأنه "شوفيني"!!.
&
&سأروي مضطرا حادثتين متناقضتين حول تنامي هذه الظاهرة السرطانية التي نشرها سياسيونا بين مواطنينا والتي ستقتل قبل كل شيء أول المصابين بها، وقد يمكن إنقاذ الأخيرين منهم.
زرت كردستان في عام 2007 أنا والعائلة أيام عيد الفطرولم نجد مكانا متاحا في الفنادق كافة حيث إنها إمتلأت بالعوائل العراقية من الوسط والجنوب فقد وجد العراقيون في أربيل وغيرها من مدن كردستان العراق متنفسا يمكن أن يعوضهم شعور الإحباط الذي أصيبوا به نتيجة ممارسات وخطاب سياسيو الفشل والفساد الذين تحكموا بمصير العراق والعراقيين بعد 2003، وأستمرينا بالبحث وإذا برجل متوسط العمر كان يقود سيارة برازيلي وقد عرف مأساتنا فطلب مني أن أتبعه لأنه يعرف أماكن للإيجار، فتبعته الى عدة فنادق ومنازل وجدناها كلها قد أشغلت قبل يوم أو إثنين أو قبل ساعات، وإستمر الرجل يقود سيارته وأنا أتبعه الى أن وجدنا أخيرا بيتا كبيرا بالقرب من جبل "سفين" في شقلاوة، فترجلت من سيارتي لأشكر الرجل على مساعدته وأردت أن أعطيه مبلغا من المال تثمينا لموقفه لأنه أنفق جهدا ووقتا كان بالتأكيد على حساب وقته ورزق عياله، لكنه رفض رفضا قاطعا، وذكر إنه من أصحاب الأملاك في شقلاوة وإنه معروف وقد قام بهذا العمل "لأننا ضيوف على كردستان العراق وهذا واجبه إزاء ضيوفه" وإن "ما دام خلصنا من صدام حسين فنحن أخوة" رقرقت عيناي بالدمع وكنت سأبكي فعلا فما قاله هذا الشخص شيء لامس شغاف قلبي، خاصة وأنا من عائلة عانت الكثير زمن النظام السابق منذ عام 1963 حيث إعتقل البعث في الايام الأولى لهم بعد إنقلاب شباط الاسود والدي وأعمامي الثلاث، وكان "كابسا" على نفسي،ولم أتنفس الصعداء إلا بعد سقوط هذا النظام الذي إعتقلني ثلاث مرات إحداها بأمر وزير الداخلية زمن البعث محمد زمام عبد الرزاق شخصيا. ولم نلمس في كل ايام السفرة شيئا يمكن أن يفسر على إنه ينطلق من منطلق قومي-عنصري، بل على العكس وجدنا غاية الكرم والشهامة والنبل من جميع من التقيناهم طوال ايام السفرة.
&
على النقيض من هذه التجربة التي لازلت أرويها شاهدا على أخوة العراقيين وطيبتهم وعدم تعصبهم وإنفتاحهم على بعضهم قبل أن تأخذ السياسة منهم مأخذها، زار أخي كردستان عام 2012 بعد أن رويت له ما شاهدت من أخلاق بالإضافة الى الطبيعة الرائعة هناك، وفي الليلة الأولى وبينما هو نائم في الفندق قام أحد الشباب الأكراد من عمال الفندق نفسه-حيث أظهرته الكاميرات لاحقا- بكسر زجاجة سيارته الخلفية بإلقاء حجرعليها!! وعند إكتشاف أخي إن زجاج سيارته محطم طلب أن يرى الفلم المسجل على أجهزة المراقبة في الفندق، فعرف عمال الفندق الشاب، ولما سئل"لماذا كسرت زجاج السيارة؟" أجاب "لأنهم عرب"!! كان رقم السيارة يشير الى محافظة بغداد. ذهب أخي للشكوى في مركز الشرطة وإذا بشخص ليس له علاقة باي شيء فلا هو من منتسبي المركز ولا من موظفي الفندق ولا من اقارب الشاب الذي حطم الزجاج يقول لأخي بصوت ملؤه حقدا وكراهية " وإنتم شعدكم تجون لهنا إحنة ما نريدكم" ولم يكن من أخي الا أن رد والغصة تكاد تخنقه "لما إجيت كنت أعتقد إنتم تريدوني، أما هسة وبعد هذا اللي سويتوه وياي ولما عرفت انو انتم ما تردوني أني بعد هم ما أريدكم ونعلة علي إذا إجيتكم بعد"، لم تنته ماساة أخي عند هذا الحد، ففي طريق العودة الى بغداد إعترضته سيطرة للمرورعند حدود كركوك بإتجاه بغداد وطلب منه شرطي المرور التابع لشرطة مرور كردستان "إجازة السوق" ولما لم تكن لدى أخي إجازة سوق بسبب عجز سياسيي الفشل على تنظيم اي شيء بما في ذلك أرقام السيارات وإجازات السوق أخبره بأن ليس لديه واحدة فطلب منه أن يتبعه الى مديرية مرور بيخال حيث أمر الضابط –الذي يعلم بعدم قيام مرور بغداد بإصدار إجازات سوق حتى ذلك الوقت- بحجز سيارة أخي، ولما حاول أخي إفهامه أن ليس في العراق الأن إجازات سوق أخبره الضابط وكان برتبة عقيد "لا تأتي الينا إذن"!! كان الفارق شاسعا بين التجربتين كانت الأولى حين لم تأخذ السياسة بعد مأخذها من عقول الناس وعواطفهم، والثانية كانت نتيجة طبيعية لهذا الضخ اليومي من بث الكراهية بين العراقيين من قبل بعض السياسيين الذين أفلحوا في مخاطبة عواطف الناس البسطاء وإثارة مشاعرهم إزاء الأخر المختلف معه في القومية أو المذهب بدل مخاطبة عقولهم لأن مخاطبة العقول تتطلب برامج علمية مبنية على أسس عملية لإصلاح حال المواطن ونقله من مستوى معيشي وثقافي وتعليمي وصحي الى مستوى أعلى وارفع شأنا، ومخاطبة عواطف الناس تديم الحشد السياسي المبني على أسس عنصرية أو مذهبية وتنسي الناس مشاكلهم الحقيقية التي لم تحلها في السنوات السابقة إنتخاب الشيعة لشخصيات شيعية وإنتخاب السنة لشخصيات سنية وإنتخاب الأكراد لشخصيات كردية وسوف لن تحل أي منها بل ستتفاقم مشاكلنا أكثر ما دمنا ننتخب بالعواطف ونصغي بالعواطف ونقرأ بالعواطف وننتقد بالعواطف.
&
ثمة عدد من الأكراد وخاصة بعض القيادات القومية الكردية يشير-ضمن أحد أهم مرتكزات خطابهم القومي-الى "مسؤولية العرب" عما حصل للأكراد إبان حكم صدام حسين!! وتلقف بعض الأكراد البسطاء هذا الحديث الذين تعرضوا لهجمة إعلامية هدفها ترسيخ هذا الفهم الخاطيء الذي يصب أولا وقبل كل شيء لصالح من يعرض نفسه حاميا للأكراد من "العرب"، ولغرض التوضيح لمن لا يتذكر أو تعرض لنوع من غسيل الدماغ خاصة من الشباب الذين كانت أعمارهم عند سقوط النظام السابق عشر سنوات وكبروا وترعرعوا تحت ضغط ماكنة إعلامية هائلة كما تعرض باقي العراقيين لها ففهم الأشياء بالطريقة التي أراد بها قادة ومؤسسو النظام العرقي- الطائفي في العراق بعد 2003 أن يفهموها، سائرين على خطى بول بريمر الذي أخبرهم "إنهم سنة وشيعة وأكراد" فتلقفوها من بعده ورددها كتاب ومثقفون كثر"نحن سنة وشيعة وأكراد"،سأتطرق هنا لبعض الحقائق التي يبدو أن ليس ثمة من هو قادر على تبيانها من السياسيين العاجزين حتى عن مجرد ذكرما تعرض له شعب العراق من ماسي والام وإيجاد خطاب سياسي واع ومسؤول يهم العراقيين جميعا ويوحد رؤاهم وقواهم بإتجاه البناء والتقدم بدل ترسيخ هذا الخطاب العرقي-الطائفي الذي لم يفعل سوى تمزيق وحدة العراقيين وتكريس سلطات هذه الأحزاب والشخصيات العاجزة عن إيجاد بديل "عراقي"، وأنا لا ألومهم طبعا فهم أناس عاشوا خارج العراق مدة ثلاثين عاما أو تزيد، وعندما جاءوا اليه، جاءوا لأنه مثل لأغلبهم فرصة عمل برواتب خيالية سرعان ما سيعودون الى أوطانهم التي تركوا عوائلهم فيها بعد أن يفلسوا العراق تماما.
&
بعد إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 لم يكن لحكومة البعث الأولى عملا لمدة تقل قليلا عن السنة سوى قتل العراقيين من المتهمين بالشيوعية أوموالاة الزعيم عبد الكريم قاسم فأعدموا المئات من العراقيين دون محاكمات وقد يكون من بين ضحاياهم في تلك المذابح بعض الأكراد من المحسوبين على الحزب الشيوعي، لكن العدد الأكبر من الضحايا كان من العراقيين من مدينة بغداد والبصرة خصوصا، فمن سيتحمل مسؤولية تلك المجازر بحق العراقيين "العرب"؟
في الحرب العراقية الإيرانية تم إستثناء الأكراد من الخدمة الإلزامية ولم يشتركوا فيها وكان الضحايا من الجنود من "العرب" فقط إلا إستثناءات قليلة من الأكراد القاطنين خارج حدود الإقليم، كما إن النظام السابق كان قد إستخدم الحرب وسيلة للتخلص من كل مناوئيه المحتملين من بين العراقيين فشكل ما كان يطلق عليه حينها "قواطع النشاط الوطني" والتي كانت تضم الشيوعيين السابقين الذين خرجو من السجون وأبناءهم وأبناء بعض السياسيين الأخرين مثل البعثيين المنشقين والذين لم تبث عليهم التهم، وزجوا جميعا في أسوأ أماكن القتل في جبهات القتال ولم يعد منهم أحدا، فمن سيتحمل مسؤلية هذه الدماء من العراقيين "العرب"؟
في إنتفاضة 1991 قصفت مدن الجنوب كلها بالمدفعية والطائرات السمتية والصواريخ ونقل لي شاهد عيان إن جثث القتلى كانت تغطي شوارع مدينة كربلاء التي سقط فيها وحدها ما يقارب الستين الفا بين قتيل وجريح وإن الجيش إستغرق إسبوعين كاملين لنقل الجثث من شوارعها، فمن سيتحمل مسؤولية هؤلاء الضحايا من العراقيين "العرب"؟
&
في 19 شباط 1999 تم إغتيال السيد محمد الصدرفي النجف الأشرف، ونتيجة ذلك إندلعت مظاهرات وإحتجاجات أدت الى سقوط أكثر من 400 شخص بين قتيل وجريح في مدينة الثورة ببغداد وحدها، وعاد البعثيون في الليلة الاحقة-وكنت شاهدا على ذلك- للبحث عن الجرحى وتم إعتقالهم وقتلهم في اليوم التالي للإعتقال، فمن سيتحمل مسؤولية هؤلاء الضحايا من العراقيين "العرب"؟
في عام 1996 إستنجد السيد مسعود البرزاني بصدام حسين في صراعه مع حزب الإتحاد الوطني الكردستاني وكانت نتيجة ذلك سقوط مئات القتلى من الأكراد، وكان أعضاء الإتحاد الوطني يخشون رفاقهم في النضال من الحزب الديمقراطي الكردستاني أكثر مما كانوا يخشون قوات صدام حسين في تلك المعارك، فمن يتحمل مسؤولية هؤلاء الضحايا من العراقيين "الأكراد"؟
&
منذ عام 1991 ولغاية 1996 كانت ثمة حرب وإشتباكات مستمرة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين قبل أن تنهي هذه الصراعات المستمرة الوساطة الأمريكية بينهما كما هو معروف لتوحيد قوى المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين، وسقط العديد من القتلى والجرحى من الطرفين، فمن سيتحمل مسؤولية هؤلاء الضحايا من العراقيين "الأكراد"؟
&
صدام لم يستثن أحدا من بطشه وإجرامه، فما السبيل الى إنتاج نظام يكون نقيضا لنظامه؟ هل سيتم ذلك بتعصب قومي أو مذهبي على غرار ما كان يفعل؟ بماذا سنختلف عنه إذا القى "الشيعة" بمسؤولية إجرامه على "السنة" وهم منه براء؟ أو القى "الأكراد" بمسؤولية إجرامه على "العرب العراقيين" وهم منه براء؟ الم تكن نهاية نظام صدام تكفي كمثال بارز على فشل الدعوات القومية والممارسات الطائفية في الإستجابة لحاجات الناس وتوفير شروط حياة لائقة لهم؟ هل ثمة دولة من دول العالم تحتوي على قومية واحدة أو مذهب واحد أو دين واحد؟ الم ينجح مهاتير محمد في ماليزيا لأنه لم يتبن أيديولوجيا قومية أودينية؟ الم يكن خياره التنمية؟ هل نحتاج نحن في العراق غير التنمية؟ هل نحتاج من يؤجج فينا مشاعر الكراهية ضد بعضنا قوميا أو مذهبيا أم نحتاج من يأخذ بيدنا نحو الرفاه والحياة الكريمة؟ هل سيتحول مستوى الفرد العراقي الى مستوى أفضل حين يكون رئيس الوزراء شيعيا ورئيس الجمهورية "إستحقاق كردي" ورئيس البرلمان سنيا، أم حين يتبنى من يتسنم هذه المناصب برنامجا تنمويا يستجيب لحاجات الناس ويفتح لهم افاق المستقبل؟ لا زال الخيارقائما.