للموسيقى الكلاسيكية الهادئة وقعها العذب الساحر في تشنيف آذان عشاقها ومستمعيها، والمميز عن كل ما نعشقه ونهواه من ضروب الموسيقى والغناء الأُخرى، وإن جاز لنا التعبير المكثف عن أدق معانيها لقلنا إنها "غذاء الروح"، وكما أثبتت الدراسات فإن لها فوائد جمة متعددة فهي مفيدة في علاج المرضى أو للتخفيف من آلامهم، بدنية كانت أم نفسية، لا بل هي نافعة ومُجربة في تخفيف الضغوط الذهنية والنفسية حيثما كُنا وأينما رحلنا، كما أنها تساعدنا على النوم في حالات الأرق غير الشديد.

على أنَّ الموسيقى الكلاسيكية الهادئة تتفرد بين كل أنواع الموسيقى بخاصية جميلة تُعد في منتهى الأهمية للمثقفين والأدباء في استحضارها - كغذاء للروح - عندما ننشد الهدوء والسكينة في أوقات القراءة والكتابة، وهي مفيدة أيضاً إذا ما بُثت بصوت خافت في مختلف أماكن العمل المكتبية، وكذلك في أمكنة المشافي والمراكز الصحية، ناهيك عن شتى المؤسسات الدراسية والبحثية والتعليمية، وبضمنها المكتبات العامة. وللأسف فإنَّ هذه المؤسسات كافة مُغيّب منها هذا الضرب من الموسيقى الحضارية الراقية؛ إمَّا لتدني الوعي بفائدتها وأهميتها القصوى، أو لمحظورات من قبيل الغلو في الدين.

يعود تفتح مداركي على متعة وأهمية الموسيقى الكلاسيكية الهادئة إلى سنيّ حياتي الدراسية الجامعية القاهرية خلال أوائل السبعينيَّات، وإني لأتذكر جيداً حرصنا على الاستماع إليها على موجة "البرنامج الموسيقي" من إذاعة القاهرة أثناء مذاكرة مناهجنا الدراسية، وخاصةً خلال سهراتنا التحصيلية الليلية، سيما في أواخر العام الدراسي. وفي أواخر العقد الأول من قرننا، وبعد افتتاح برنامج الموسيقى الكلاسيكية الذي يُبث من إذاعة سلطنة عُمان طوال 19 ساعة متواصلة، بدءاً من الساعة السابعة بتوقيت البحرين حتى الثانية عشرة منتصف الليل، أضحى هذا البرنامج صديقي المفضّل المصاحب لي في مكتبتي المنزلية لساعات طويلة أثناء القراءة والكتابة نهاراً وليلاً.

على أن ما يميّز هذا البرنامج - ولربما عن سائر البرامج الموسيقية المماثلة في عالمنا العربي - حرصه ليس على بث المقطوعات الموسيقية فحسب، بل التعريف أيضاً بمؤلفيها، ومن ثمّ تقديم نبذة تعريفية مركَّزة عن حياة هؤلاء المؤلفين وقصة كل مقطوعة، ويتم هذا التقديم باللغتين العربية والإنجليزية، ويشمل المقطوعات الموسيقية العربية، وبضمنها موسيقى الأغاني العربية الرفيعة المستوى. وبالإضافة إلى السمفونيات والمقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، يحرص برنامج الموسيقى الكلاسيكية العُماني في أجندة بثه اليومي على بث فقرة للتعريف السريع المختصر بأهم المصطلحات الموسيقية وكيف جاءت نشأتها وتطورها، كما يخصص فقرة للتعريف بمشاهير المؤلفين والعازفين في العالم الذين ارتبطت أسماؤهم بالموسيقى الكلاسيكية وأثروها بإبداعاتهم الخالدة الحية والتي لا تموت مهما تعاقبت القرون. ومن أبرز الأسماء التي تسنى لي تسجيل مقطوعاتهم الموسيقية في أوقات مختلفة ومن ثم تفريغها في مدونة خصصتها لهذا الغرض: بيتهوفين، وموتسارت، وباخ، وتشايكوفسكي، ومازوسكي، وبروكوفييف، ورخمانيونوف وغيرهم. وصفوة القول إنَّ هذا البرنامج الموسيقي، ومنذ انطلاقته قبل نحو 14 عاماً، يُعد بحق بمثابة موسوعة أو مكتبة صوتية متخصصة للموسيقى الكلاسيكية، عظيمة المتعة والمنفعة لطلبة الموسيقى وللباحثين والهواة على حد سواء.