قبل (انتشار الخبر الملفّق عن) اعتقال الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح دميرتاش في أزمير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان دميرتاش قبل إلغاء اللقاء المقرر مع رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو من طرف الحكومة، قد وجه خطاباً لحكومة العدالة والتنمية جاء فيه "لا نريد منهم أية حجج، ما دامت سياسة عدم الحل، سياسة العنف والشدة، وسياسة التربية بالدبابات والقذائف، هي التي لا تزال تُمارس على أبناء شعبنا "، إذ أن ذلك التصريح قادنا الى مراجعة الكثير من اللقطات المثيرة للانتباه في تركيا، ويبدو أن المشهد المدعو للقلق والاعجاب لدى بعضهم قد يدعو الى الامتعاض والاستهزاء لدى البعض الآخر، ولكن يبقى اللاعادي في الأمر هو التداخل الفانتازي بين التغاضي والاحتفاء بآنٍ واحد في المشهد السياسي في البلاد، وذاك لدى العاملين أو القائمين بأعمال وسائل الاعلام، المعنيين بنقل الوقائع والأحداث كما هي وليس كما يحلو للمخرجين.

ويظهر أن وسائل الاعلام مثلها مثل الأنظمة كثيراً ما تساهم في تشويش وعي الناس، فيتصور المرء نفسه حيال ما يُقدم له، وكأنه يتابع فيلماً هوليودياً وليست أحداث حقيقية مترابطة أو مقطوعة من سياقها حين يتم نقلها للناس من أرض الواقع، إذ أن المقطع الذي تم تداوله مِن قِبل وسائل الاعلام التركية والعربية فيما يخص محاولة الرئيس التركي إنقاذ مواطن تركي جرب فكرة الانتحار أثناء مرور موكب الرئيس من فوق جسر البوسفور، تداخل بالمقابل مع لقطاتٍ دامية في مناطق اخرى من تركيا بدون أن يصادف قتلهم مرور أحدٍ من المسؤولين، حيث يذكرنا الموقف نفسه ببعض المثقفين المفلسين اقتصادياً في بلادنا، إذ كان بعضهم يستلف من أصحابه ثمن تناول فنجان القهوة في بعض مقاهي المدينة، وعند الانصراف ومن باب الظهور بمظهر الهمام الكريم كان يدفعُ مثقفنا للنادل بقشيشاً يُعادل ثمن القهوة والشاي من تلك النقود المستلفة، ناسياً بأن المنطق يطالبه بألا يُحاول التغطية على إفلاسه من خلال ادعاء السخاء.

ويبدو أن صاحب فكرة الانتحار نجح في الظهور بينما مَن دفعه الى الحالة ربما لم ينجح في مسعاه إلا في نطاقٍ شخصيٍ محدود، لا تتجاوز فترة عبور الرئيس من تلك النقطة، وذلك باعتبار أن ثمة أزمة حقيقية وقوية تعصف بالبلاد، كما انتحار شخص واحد من المؤكد لن يكون بمقدوره سحب الأضواء كلها من مواقع الاحداث لتلتهي للأبد بما يحث عند جسر البوسفور، وحتى وإن نجحت تجربة المنتحر في جلب كل وسائل الاعلام الى منطقته، فإن تلك الوسائل سرعان ما ستعود الى مواقع الأحداث الجارية هناك على قدم الدبابة وسيقان المدافع، هذا إذا ما رغبت وقامت تلك الوسائل برسائلها الاعلامية على أكمل وجه، بما أن الوقائع هناك مستمرة ولا تقتصر على مجرد لقطه عابرة كما هي في حالة المنتحر الذي لن يطول الاحتفاء به أكثر من نصف ساعة، حيث لن يأخذ موضوعه أكثر من فكرة القيام بتوليف وحبكِ فيلمٍ قصيرٍ مثيرٍ عنه سواءً أكان تمثيلاً أم كان حقيقياً، ومن ثم تناوله خبرياً في كل الوسائل الاعلامية.

ولكن الملفت حقاً هو أنه بقدر الاحتفاء بخبر الذي لم ينتحر، فإن الجثث التي تكدست فوق بعضها في مستشفى مورغانا الحكومي في مدينة شرناخ بفضل عمليات الجيش التركي لم تتصدر وسائل الاعلام، مع أنه ما من أحدٍ عَلِمَ أو أفصح عن نوايا الرجل إن كان فعلاً أراد فعل الانتحار أم أنه كان غرضه الاكتفاء بالتمثيل على الناس والرئيس معاً وينصرف، بينما ثمة من يُقتل حقيقة في المدن الكردية في تركيا ولا يحتاج الأمر الى معرفة نواياهم في الموت لأنهم قتلوا وانتهى الأمر، وهذا ما صرح به البرلماني عن مدينة أورفا ’’ أوصمان بايدمير ’’ للصحفيين يوم الأثنين حيث قال: بأن جثث المدنيين متكدسة فوق بعضها البعض نتيجة الاشتباكات الدائرة بين الجيش التركي من جهة وحزب العمال الكردستاني من جهة ثانية في مدن مثل: سور وجزيرة بوطان وسلوبي، وقد حمَّل بايدمير الحكومة التركية فيما يحصل في مدن شمال كردستان، قائلاً بأن مدن سور وجزيرة وسلوبي يتعرضون لقصف مستمر بالأسلحة الثقيلة من قِبل الدولة التركية وسط حظر تام للتجوال في هذه المدن منذ أسابيع، مطالباً النيابة العامة الى فتح تحقيق في بهذا الخصوص وإيجاد حلٍ لهذه المشكلة.&

إذن فالرئيس أقنع الشاب بالعدول عن فكرة الانتحار وذلك من خلال عبور موكبه مصادفةً من على جسر البوسفور في مدينة إسطنبول يوم الجمعة، بينما الحرب المشتعلة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني منذ أسابيع، فيبدو أن ما من محاولة جادة من قبل الحريصين على سلامة الانسان لإقناع طرفي الصراع بالعدول عن الاشتباكات التي تودي بحياة مواطنين أبرياء يحبون الحياة، وليسوا ناقمين عليها، كما قد تكون عليها حالة مَن حاول أن يُنهي حياته انتحاراً فيما إذا ما كان صادقاً في مسعاه، ثم أصلاً أين المشكلة إذا ما انتحر أحدهم بناءً على رغبته، طالما أنه غدا عبئاً على نفسه، وعلى من هم حوله، وأليس الانتحار الفردي أقل ضرراً بالشعوب والدول من استمرار العزف على سيمفونية الكراهية بين المواطنين التي تؤدي كل فترة الى إشعال المعارك في مناطق ما، ومن ثم إدامة الاستماع والفُرجة عليها من بعيد، وكأن من يُقتلون في مكانٍ ما أقل أهميةً من شخصٍ بائسٍ يود إنهاء حياته في مكانٍ آخر.