إن الباحث في الأحداث السياسية وأبعادها كمن يسير في ظلام دامس، وكلما خرج بنتيجة يجد العديد من الشواهد التي تدحضها، فيقف حائرا وعاجزا عن ربط الأمور ببعضها، ومنطقتنا العربية خير شاهد على التضارب والتناقض بحيث لا يمكن للمرء التوصل إلى الصورة الكلية، ومن أبرز ما المشاهد المبهمة ما يلي:

أولا: خلط الربيع العربي بالحروب الأهلية الطاحنة الدائرة رحاها في المشرق والمغرب العربي، فالربيع العربي لا علاقة له بتآمر الغرب على تدمير الدول العربية، وإنما ركب موجة الربيع لتنفيذ خططه الموضوعة مسبقا.&

ثانيا: قانون الجاستا الذي يجيز لضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر مقاضاة السعودية مع العلم أن الولايات المتحدة هي التي أنشأت ومولت ودربت الإرهابيين في شتى بقاع الأرض.&

ثالثا: قيام الشيعة العرب بموالاة ايران وهي الدولة التوسعية والاستعمارية ذات الاستعلاء العرقي والتشدد الديني، ومصالحة الغرب لها والبدء بتنفيذ مشاريع اقتصادية معها والسماح لها بتحطيم أسعار النفط.&

رابعا: قيام مسئولين فلسطينيين بالتعزية في وفاة الهالك بيريز الملوثة يداه بدماء الفلسطينيين وعناق ذويه بمشاعر صادقة، مع العلم أن العرب باتوا يحذرون من الفلسطينيين ووجودهم في بلدانهم كي لا تكون وطنا بديلا لهم، في الوقت الذي لا يمضي يوم إلا ويخرج شهيد فلسطيني بسبب تصديه لقوات الاحتلال الذي لم يوفر شيخا ولا طفلا ولا امرأة من رصاصه.&

خامسا: تمسك البعض بمشروع الحكم الإسلامي على ما ينطوي عليه من مخاطر نظرا لانقسام المسلمين إلى شيع وطوائف ومذاهب، وتكاد لا تجد آية في القرآن إلا ولها أكثر من تفسير، وغالبا ما يكون "جمهور العلماء" في حالة اختلاف حول المعنى المقصود، وإذا اتفقوا فسرعان ما يجدون نصا قرآنيا آخر يعطي معنا مختلفا. هذا بالإضافة إلى غير المسلمين من مواطنين من أديان أخرى يخشون على حرياتهم وقوانينهم ويرفضون فرض قوانين إسلامية عليهم.&

سادسا: تعرض الدول العربية إلى خطر التفكك والاحتلال والتبعية ورغم ذلك يرفضون المصالحة والاتفاق على خطة موحدة لمواجهة ما يراد بهم، وقد تمزقت الدول العربية الواحدة تلو الأخرى ولا يزال حبل التمزيق ممتدا وسوف يطال الجميع، وعندما يفكرون بالاستعانة بالخارج فإنهم يستعينون بإيران وتركيا وإسرائيل وهي الدول ذات التاريخ الاستعماري في المنطقة ولها مطامع تمتد إلى أبعد من مناطقها الحدودية.&

سابعا: افتقاد الدول العربية إلى آليات تحول دون انهيار الدول في حال زوال نظام الحكم من خلال القرار المؤسسي، لأن معظم الحكومات العربية غير مدربة على العملية الديمقراطية واتخاذ القرارات بشكل مؤسسي يحقن دماء الشعب ويجعلهم يسلمون بنتائج الانتخابات النزيهة فلا تنهار كما انهارت ليبيا والعراق واليمن.&

ثامنا: رفض غالبية العرب للعلمانية كعامل موحد لجميع فئات الشعب بصرف النظر عن الدين والعرق، وتفضيلهم الاحتكام إلى السلاح في عصر لا تحل الدول المتقدمة مشاكلها إلا من خلال صناديق الاقتراع والتصويت على اتخاذ القرارات.&

تاسعا: استشراء الفساد في الدول العربية وخنوع الشعوب التي تتوحش عند الدفاع عن الدين بينما لا تتوحش عندما تضيع حقوقها وتصبح جائعة لا تجد رغيف خبز بينما البعض في نفس المجتمع يعيشون في رفاهية خرافية لا يعرف احدا مصدرها ولا كيف حصلوا عليها.&

عاشرا: الانصياع لأحكام منظمة التجارة الدولية وصندوق النقد الدولي وفتح الحدود أمام البضائع الأجنبية وخلق ثقافة استهلاكية بين الجياع بشكل يقتل فيهم الرغبة بالبدء بتنفيذ مشاريع اقتصادية نتيجة إصابتهم بالإحباط لأن معركة التنافس غير عادلة ومحسومة مسبقا.&

وأخيرا، كيف يمكن لغير المختص أن يربط بين هذه الخيوط ليحصل على صورة كلية للموقف، وهو مبهم ولا يوجد تفسير له ولا يمكن القول أن السبب هو الغباء والهمجية والأنانية وانعدام الثقة، فنحن أمام شخصيات متعلمة وواعية ومثقفة، وعندما تلتقي هذه الشخصيات، يغمرون بعضا بالعناق والقبل، بل (جحيم من القبل) فلماذا لا تترجم هذه المحبة إلى خطة إنقاذ؟&