دعيت في اليوم العاشر من شهر جولاي الماضي للإحتفالية السنوية لافتتاح جبل فوجي للتسلق، والذي هو أعلى جبل في اليابان، ويمتاز بجمال قمته، بغطائه الثلجي الأبيض. فعادة تمنع سلطات هذه المنطقة هواة تسلق الجبال من تسلق جبل فوجي في فصل الشتاء، والذي يبدأ في هذا الجبل من نهاية شهر أكتوبر حتى بداية شهر جولاي. ويحتاج صعود هذا الجبل، الذي يصل ارتفاعه إلى 3776 مترا، حوالي الست ساعات، بينما يحتاج النزول إلى ثلاث ساعات. وتقوم السلطات الحكومية للمنطقة مع ممثلين من المؤسسة الدينية، بتنظيم هذه الإحتفالية، وتدعو لها مسئوليين من السفارة البريطانية والحكومة والبرلمان والاعلام. وتنقسم هذه الإحتفالية إلى قسمين، جزء "سياسي" يتم في ساحة عامة صغيرة خارج معبد جبل فوجي، ويفتتحه حاكم منطقة فوجي، وتلقى فيه ثلاثة خطابات، لحاكم المنطقة وممثل المنطقة في البرلمان وممثل عن السفارة البريطانية، ويحضره رجال السياسة والإعلام والدبلوماسية وأهالي المنطقة ومع الطلبة، و"بدون" رجال الدين. اما الجزء "الديني" فينقسم إلى أربعة اقسام ويحضره الجميع، مع رجال الدين.&
وتدعى لهذه الإحتفالية سنويا سفارة المملكة المتحدة، بسبب أن أول من تسلق جبل فوجي كاملا حتى قمة الجبل من الأجانب، هو السير رادرفورد الكوك البريطاني في عام 1868، كما أن أول امرأه اجنبية تسلقت جبل فوجي، هي السيدة فاني بارك، وهي زوجة السفير البريطاني سير هاري بارك، في عام 1869. كما أن آخر مرة انفجر بركان هذا الجبل كان في عام 1707، ويعتبر جبل فوجي أحد الثلاث جبال المقدسة في اليابان، مع جبل تاته، وجبل هاكو، ويعتبر جزءا من التراث العالمي ضمن قائمة اليونسكو، حيث ألهم هذا الجبل الشعراء والفنانين، وكان موقعا للحجيج على مدى قرون طويلة. وتضم منطقة هذا الجبل 25 موقعا منها ضريح "فوجي سان هونجو سنجن"، وستة أضرحة شنتو ومعابد بوذية أخرى، كما تضم أيضا بيتين خشبيين تقليديين قديمين، وبحيريتي ياماناكا وكاواجوشي، وثمانية ينابيع معدنية حارة. كما بني في منخفض من هذا الجبل معبد "تايسكيجي" في عام 1290 ، ويعتبر هذا المعبد مركز هام لإحدى الطوائف البوذية في اليابان، وهي بوذية نشرين شوشو، والتي هي المدرسة الأرثوذكسية لفرع بوذية "نشرين"، والتي تعتمد على تعليمات القس الياباني المشهور نشرين دايشونون، الذي عاش في الفترة بين عام 1222 وحتى عام 1282، وكان متعصبا لطائفة معينة من البوذية، والتي اعتبرها سببا للخلاص من الفقر والمرض والكوارث الطبيعية. وأعتمدت تعاليمه على تغير التفكير السلبي بالتفكير الإيجابي، مع التأمل لتهدئة العقل، والتركيز على طهارة النفس، والحكمة لشل الرغبات السلبية، مع التوجيه لحقيقة بوذا الكونية، والتي تضم ثلاثة من اسرار قوانينها، وهي العبادة، والتأمل، والوصول الى حكمة الرزانة والإنضباط.
وتتكون كلمة فوجي في اليابانية من قسمين، ويعني الجزء الأول منها الثراء، بينما يعني الجزء الثاني الإنسان في مرتبة بارزة. ولكون أن جبل فوجي ظاهرة طبيعية مميزة لليابان، وتعتبر روحه من أعظم خلق الخالق جلة عظمته، حيث تعتقد عقيدة الشنتو اليابانية بأن جميع الظواهر الطبيعية، من نباتات وحيوانات وجبال وأنهار ووديان ومحيطات وبحار، لها أرواح مقدسة، يجب أن تحترم وتبارك ويحافظ عليها. لذلك تكون إحتفالية جبل فوجي إحتفالية هامه في المجتمع الياباني، والملفت للنظر في هذه الإحتفالية الفصل التام بين السياسة والدين، فالجزء السياسي القصير من الاحتفالية يتم خارج المعابد، ولا يشارك فيه رجال الدين، بينما يتم الجزء الديني الطويل منه في عدة اضرحة شنتو ومعابد بوذية حول جبل فوجي. ويبدأ الجزء الأول من الإحتفالية الدينية في معبد الشنتو لجبل فوجي، حيث يجلس الحاضرون على كراسي أمام ما يشبه المسرح، والذي يضم طاولة مستطيلة طويلة، وعلى جانبيها عمود خشبي، معلق عليه لوحة دينية. وتتم هذه الإحتفالية بدخول ثمانية من قساوسة الشنتو، يترأسهم العميد، الذي يقوم بتحريك عصاة خشبية، معلق عليها مجموعة من قصاصات ورقية بيضاء، لرش البركات على الحاضرين، ومن ثم يبدأ بتلاوة موشحات دينية. وبعدها يقوم فريق من القساوسة الشباب بجلب مجموعة من الصحون بها الرز، ثم السمك، وثم حلوى الرز، ومن ثم مجموعة من الخضروات، وبعدها مجموعة من الفواكه، لتقدم لكامي المعبد. والكامي بمفهومنا الديني الشرق اوسطي هو كملك من ملايين ملائكة الكامي اليابانية، التي تحوم حول جمال الطبيعة من بحار ومحيطات، وجبال وأنهار، وأشجار وغابات، كما تزور الأضرحة والمعابد. ثم ينهي عميد القساوسة الإحتفالية بتلاوة دينية، مع وقوف المدعوين، تتبعها انحناءتين بسطتين.
وينتقل الحاضرون بعد ذلك بالسيارات الى معبد بوذي على مدخل جبل فوجي، لتتم "عملية تطهير أجسام ونفوس وعقول" مجموعة من الشباب البالغين من خلال إنصباب ماء الجبل على أجسادهم، مع وقوف الرهبان البوذيين والمدعوين، مع تكرار تلاوة موشحات دينية. ثم ينتقل الجميع الى بوابة مسار الجبل للصعود، وقبل أن تبدأ عملية الصعود تتم إحتفالية أخرى وقوفا، وتجمع بين بعض تلاوات دينية، مع الحان موسيقية من آلة نفخ صدفية. وبعدها ينتقل الجميع للجلوس حول حلبة، بها صندوق خشبي كبير، مغطى بأغصان الأشجار، ليقوم احد الرهبان بإلقاء عدة سهام حارقة في أربعة جهات منها، الشرق والغرب والشمال والجنوب، وبعدها يعطى للحاضرين قطعة خشبية، ليكتب كل أسمه عليها، ولتبدأ بعدها إحتفالية تطهير هواء الجبل، بدخان يصدر من حرق الصندوق الخشبي، وليقوم الحاضرون في صف، لإلقاء القطع الخشبية في وسط الصندوق المحترق. وبعد ذلك يتم زيارة موقع التذكاري المرمري، لأول متسلق أجنبي بريطاني، ووضع اكليل من الزهور بجانبه، ولتنتهي الإحتفالية بقيام طلبة المدارس بحفلة ترحيب لممثل السفارة البريطانية وعائلته، حيث يبدأ ذلك بخطاب ثم بحفلة موسيقية بالناي، وبعدها يقدم الطلبة للضيف لوحة مرسوم عليها جبل فوجي، وأربعة شمعدانات تمثل كل منها فصل من فصول السنة، ولتنتهي الاحتفالية بتناول الغذاء.
والجدير بالذكر بان هناك مجموعة من رجال الدين اليابانيين الذين يهتمون بروحانيات جبل فوجي ويعرفون "باليامابوشي"، وهم رهبان يعيشون العزلة والزهد والتصوف على قمم الجبال، ويعتقدون في عقيدة"شوجندو"، والتي هي عقيدة توافقية تجمع بتناغم بين البوذية والشنتو والتاوية الصينية، والتي تعتمد على التنوير بفهم العلاقة الروحانية بين الإنسان والطبيعة، كما يشكلون كونفدرالية مع عدة معابد أخرى، ويرجع أصولهم للقرن الثامن الميلادي، كما ان هناك تشابه بين تعليماتهم مع تعاليم الساموري في الحياة المعيشية والعسكرية. وتعتمد عقيدتهم على التحمل والبحث عن الروحانيات والقوى الفوق الطبيعة. كما يركزون خلال عزلتهم وتصوفهم في قمة الجبل، على دراسة الطبيعة والروحانيات والدين والرياضة العسكرية، لتحسين نفوسهم وعقولهم وأجسامهم. وقد جمعت هذه الفئة قديما في التاريخ الياباني بين التصوف والرهبنة في العبادة، وقوة وجرأة وسلوك وخلق السموراي في العسكرية، مع الإنضباط والتنظيم في السياسية. وقد برزت قوتهم في القرن الثالث والرابع عشر لينتظموا على شكل محاربي "الكونشا"، وليأخذوا تعليماتهم من مراكز معابد طائفتهم.&
وقد ساعدت طائفة "اليمابوشي"، في القرن الرابع عشر، الامبراطور جودايجو في محاولته للتخلص من لواردات الحروب الكاماكورا، كما استخدموا مميزاتهم الجسيمة والعقلية والنفسية للانتصار على عساكر السموراي، ودعم السلطة المركزية للديوان الإمبراطوري. كما لعبوا دورا مهما بين المستشارين العسكريين لتوحيد اليابان، فبعضهم استطاع تحت قيادة "تاكيدا شنجن" مساعدة أودا نوبوناجا ضد يوسوجي كنشن في عام 1568، وبعضهم الآخر دعم توكوجاوا اياسو. كما أن بعضهم حارب مع "الايكو ايكي" ضد نوبونجا، والذي إستطاع في النهاية القضاء عليهم وإنهاء الدور العسكري للرهبان، بعد أن بدأ في عملية توحيد اليابان.&
وقد كان "الايكو ايكي" مجموعة من الثوار الفلاحين والرهبان البوذيين والقساوسة الشنتو والنبلاء المحليين، الذين ثاروا على حكم الديمو في القرن الخامس والسادس عشر، والذين آمنوا ببوذية الأرض الطاهرة، وشكلوا تحالف للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، كما شاركوا في عدة إنتفاضات شعبية في القرن الرابع والخامس عشر. ومع انتهاء حرب أونين في عام 1477، سيطر كثير من أعضاء الايكو ايكي على المعابد والاضرحة والكنائس ودقوا الإجراس الحذرة ليلا ونهارا ليخلقوا القلق في قلوب الأثرياء، ولم يكونوا منظمين في البداية، وكانوا تابعين لتعاليم الراهب رنيو، المؤمن بعقيدة نشرين البوذية، وقد اضطر ان يهرب من كيوتو في عام 1465 ليشكل معبدا يوشي زاكي. وفي عام 1484 اشتعلت انتفاضة منظمة لجماعة الايكو ايكي، فتخلصوا من حاكم المقاطعة، وسيطروا على الحكم، لتكون اول تجربة يابانية في الحكم الذاتي. وقد تعرضت طائفة الايكو ايكي للاضطهاد، فانتقلت جمعيتهم للعمل السري، باسم جمعية كاكوره نيبوتسو، والتي كانت تمارس بوذية جودو شنشو السرية في جزيرة كيوشو اليابانية، في فترة الإضطهاد الطائفي من عام 1555 حتى عام 1865، قبل بدء عصر التنوير في عهد الإمبراطور ميجي. &&
فالملفت للنظر في إحتفالية جبل فوجي الفصل البارز جدا بين الدين والسياسة. فالقانون الياباني يفصل بحدة بين الدين والسياسة، وذلك بعد تجربة قرون طويلة مريرة مدمرة من الخلط بينهما. حيث عانى المجتمع الياباني من تاريخ دموي طويل ومدمر من الصراعات بين رجال السياسة والدين، بل وبين الطوائف الدينية والمذهبية العديدة والمختلفة. حيث كانت هناك مئات متعددة من الطوائف البوذية، بالإضافة للمسيحية، كما أن هناك ما يقارب مائة وستون ألف معبدا بوذيا وشنتو منفصلة، بالإضافة لبعض الكنائس والمعابد اليهودية والمساجد. وكانت اليابان قبل القرن السادس عشر منقسمة لعدة ولايات صغيرة تقودها لوردات حروب، بمساعدة عساكر السموراي، بينما كان الحكم المركزي للإمبراطور مشلول عمليا. وقد لعبت عصبية بعض رجال الدين دورا كبيرا في الصراعات السياسية والطائفية في اليابان، بل يعتقد البعض بأن أفكارهم "المتطرفة" هي التي أدت للدفع بالجيش الياباني للغزو الأسيوي، والدخول في الحرب العالمية الثانية. حيث كان "يؤمن" بعض الرهبان، بأن هناك حرب عظيمة مستقبلية قادمة، وعلى اليابان أن تكون مستعدة لقيادة آسيا في هذه الحرب ضد الغزو الغربي. ولم تنتهي هذه الفوضى الدينية المذهبية الطائفية إلا حينما بدأ القانون الياباني فصل الدين عن السياسة والدولة، مع إبعاد لوردات الحروب وعساكر السموراي عن الحكم المركزي للإمبراطورية. وقد فصل الدستور الياباني بعد دمار الحرب العالمية الثانية "مطلقا" بين الدين والسياسة، ليخلق تناغم مجتمعي ملموس، وليتفرغ رجال الدين للتعبد وملاحظة المعابد والأضرحة وتطويرها، ولتتطور اليابان إلى ثاني اقتصاد عالمي خلال عقود قليلة من خلال تركيزها على العلم والعمل والأخلاق. والجدير بالذكر بأن رجال الدين اليابانيين لا يتصورون اليوم بأن الوعض والإرشاد مسئولية من مسئولياتهم، بل يعتبرونها ظاهرة "معيبة" أن يحاول رجل الدين وعض وإرشاد المواطن الياباني، وكأنه مواطن غبي وبدون قيم أو أخلاق، بل يؤمنون بأنها مسئولية التعليم، من خلال التربية المنزلية والمجتمعية والحصص المدرسية في الآداب والسلوك الاخلاقي. كما لا يدرس الدين والمثيولوجيا في المدارس اليابانية. ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير البحرين في اليابان
&