&في مقال طريف وعميق نشرته صحيفة "أمريكان أنترست"، قام الكتاب الأمريكي يوكوب غريغيل بعقد مقارنة بين كتابين يحظيان بشهرة عالميّة واسعة، أعني بذلك كتاب "الأمير" لميكيافيلي، و"الأمير الصغير" لسانت اوكزبيري. وقد تركزّت المقارنة على عنصرين أساسيين متمثلين في رفض الآخر عند لأول، وحبّ الآخر عند الثاني. لكن قبل الفصل في هذين العنصرين، يجدر بنا أن نشير الى أن الكاتبين عاشا في فترتين متابعدتين ومختلفتين. فالأول، أي ماكيافيلي، عاش بين القرن الخامس عشر والسادس عشر. وهي فترة تميّزت بتقلبات وبعواصف سياسية خطيرة على جميع المستويات، وتخللتها معارك وحروب طويلة. وكانت بدايتها الغزو الفرنسي لايطاليا والذي تسبب في هروب عائلة "الميديسيس" الحاكمة من فلورنسا. عندئذ تأسس نظام جمهوري يعتمد على مجلس للمستشارين. وقد آختير ماكيافيلي كاتبا خاصا للمجلس المذكور ليكون قريبا من مراكز القرارات الكبرى، وليعيش تجارب مهمة كشفت له عن خفايا الحكم وأسراره وتشعباته. وعند عودة عائلة "الميديسيس" الى السلطة عام 1512، وجد ماكيافيلي نفسه مجبرا على مغادرة فلورنسا ليعيش منفى داخليا على بعد عشرين كيلومترا منها. وفي عزلته آنكبّ على تأليف كتاب "الأمير" الذي سيصبح الكتاب المفضل لكبار الشخصيات السياسيىّة في جميع أنحاء العالم، ملوكا وأمراء، ورؤساء، وزعماء ثورات، ومستشارين وديبلومساسيين، وخبراء في الجوسسة والاستخبارات.

وأما الثاني، أي سانت اوكزبيري، فقد عاش في النصف الأول من القرن العشرين. وكان روائيا وطيّارا حربيّا ماهرا وشجاعا. وخلال الحرب العالمية الثانية، سقطت طائرته في الصحراء فآستوحى من التجربة المريرة التي عاشها آنذاك، موضوع كتابه"الأمير الصغير" الذي ألفه للصغار، إلاّ أن الكبار وجدوا فيه ما يعجبهم ويروق لهم ويعلمهم كيف يواجهون مصاعب الحياة. وبعد مرور سنة واحدة على صدور الكتاب، آختفت طائرة سانت اوكزبيري فوق البحر الأبيض المتوسط، وظلّ موته لغزا الى حد هذه الساعة.

ويقول يوكوب غريغيل أن ماكيافيلي كان قد أتقن خلال فترة توليه منصب الكاتب الخاص لمجلس المستشارين مراقبة سلوك الضعفاء والأقوياء في السلطة سواء كانوا من الرجال أو من النساء. كما تدرّب جيّدا على فنّ المؤامرات والألاعيب السياسية التي تدبر في الخفاء. في الآن نفسه آختبر ردود فعل الجماهير على القرارات التي تُتّخذ بشأنها في جميع المجالات. لذلك أراد من خلال كتاب"الأمير"أن يبلور رؤيته الفلسفية المُسْتخلصَة من تجاربه للنظام السياسي ولدواليبه ومرتكزاته. وربما أراد سانت اوكزبيري أن يكون كتاب "الأمير الصغير" مُرْشدا للناس صغارا كانوا أم كبارا في أوقات المحن، والأزمات الكبيرة، والضياع الشبيه بضياعه هو في الصحراء بعد سقوط طائرته. غير أن هناك فروقا بين الكتابين. ففي "الأمير"، جعل ماكيافيلي الخوف من الآخر عُنْصرا أساسيا في نظام الحكم..لذا على هذا الأخير أن يعرف كيف يتعامل مع هذا الخوف، وكيف يستخدمه للمحافظة هلى بقائه، وعلى ابطال مفعوله في الوقت المناسب. أما سانت أوكزبيري فقد آعتبر أن حبّ الآخر كفيل بأن يُجَنّبنا التصدّع والشقاق داخل الأسرة، أو داخل المجتمع. وفي حين كان ماكيافيلي يعمل دائما على ابعاد الآخر، وصدّه، والحذر منه، كان سانت اوكزيبيري يسعى جاهدا للإقتراب من الآخر وآحتضانه، وآختياره رفيقا في دروب الحياة الوعرة والمتعرجة.

والأمير في كتاب مايكيافيلي يتمسّك بالخوف من الآخر كعنصر أساسيّ في نظام الحكم من دون التفكير في العواقب التي يمكن أن تنجم عن ذلك. وهو يسعى دائما الى المحافظة على وجاهته، وعلى نظام حكمه وهو غافل تماما عن قوانين التاريخ التي تؤكد على أنه لا شيء يبقى، ولا شيء يدوم، وأنه "لو دامت لغيرك لما آلت اليك". مقابل هذا،يرى "الأمير الصغير" أن حبّ الآخر يجعل المجتمع متماسكا وقويا، مُجنبا اياه كلّ ما يمكن أن يُعجّل بسقوط وآنهيار حلم "المدينة الفاضلة" التي يطمح اليها. وعند "أمير" ماكيافيلي، نحن نعاين أن الصراع من أجل السلطة، والتنافس المرير بهدف الاحتفاظ بآمتيازاتها يجعل الحكام ينظرون الى الآخرين، وحتى الى أقرب الناس اليهم، وكأنهم أعداء شرسون يتَحيّنون الفرصة للإنقضاض عليهم، وقتلهم أو تشريدهم، أو التمثيل بهم أمام الجموع. لذلك هو يمضون الوقت في التخطيط للإيقاع بكل من يعتقدون أنه يمثل خطرا عليهم، وعلى نظام حكمهم. من هنا الحروب الظاهرة والخفية، بين المجموعات والأفراد، والمؤامرات التي تحاك في الخفاء للإطاحة بهذا أو بذاك. لذلك يمكن القول أن "الآخرين هم الجحيم"، كما هو الحال في مسرحية سارتر الشهيرة التي كتبها في نفس السنة التي آختفت فيها طائرة سانت اوكزبيري فوق البحرالأبيض المتوسط، أي 1943.

وبالنسبة لأمير ماكيافيلي لا حَصَانة لأي مجتمع الاّ في ظلّ نظام يخيفه، ويرعبه، ويشيع الريبة والشكوك بين أفراده. فلا أحد يطمئن الى أحد. لكأنه يريد أن يقنعنا بأنه لا يمكن أن نكون مواطنين صالحين الاّ بتقبل فكرة الخوف كعنصر ضروري في نظام الحكم الذي نعيش في ظله. لذلك لا بدّ من رفض الآخر لأنه مصدر للخطر. وقد كتب ماكيافيلي يقول: ”الناس يحبون بحسب أهوائهم، ويخافون بحسب أهواء لأمير..وهذا الأخير عليه أن يعتمد على من يخضعون له، وليس على ما يخضعون للآخرين". أما سانت اوكزيبيري فيقدم لنا رؤية مغايرة تماما لرؤية ماكيافيلي. إنّ روح "الأمير الصغير" مفعمة بالحنان والمحبة. لذلك يسعى دائما الى كسب ودّ الآخريبن وصداقتهم. ومن أعلى جبل يصرخ:”كونوا أصدقائي...أنا وحيد". بعدها يقترب من ثعلب ويطلب منه أن يلعب معه لأنه "وحيد وحزين". كما أنه يمجد جمال الزهرة، وكل الأشياء التي تبرز أمامه لأنه لا يمكن له أن يعيش وحيدا وحزينا في غياب الحب. فالذي لا يحب لا يمكن أن يكون انسانا. والذي لم يتشمّم زهرة، ولم ينظر باعجاب الى نجمة تتلألأ في السماء، ولم يحب انسانا آخر، لم يفعل أي شيء من أجل اسعاد الآخرين، والذي يكتفي بأن يردد طوال اليوم بأنه انسان جدي، هو في الحقيقة ليس انسانا وإنما مجرد جماد". مثل هذه العواطف الإنسانية النبيلة مفقودة تماما عند أمير ماكيافيلي الذي يستعمل كل الطرق لإقصاء الآخرين وإبعادهم. لهذا يرى يوكوب غريغيل بأن نظريات ماكيافيلي السياسية تفقد الشعوب انسانيتها، وتحولها الى أشياء خاضعة للإختبار. وهي تجبرنا على أن نحكم على الآخرين من خلال النظر اليهم بالعين المجردة، وليس من خلال تَحسّس ما يكمن في أعماقهم. وهذا ما يعارض مع رؤية سانت اوكزيبيري الذي يرى أن اللامرئي هو الجوهري والأساسي لدى الانسان. ومقارنا بين الكتابين، كتب يوكوب غريغيل يقول:”كتاب ماكيافيلي يقدم لنا من دون شكّ معرفة تقنيّة للآلة السياسية، غير أن الأمير الصغير يدرّسنا علم العلاقات الانسانية. ومقترحا رؤية مغايرة، وبألأحرى سابقة للحداثة، للرغبة في المدنية، يلفت سانت اوكزيبيري آنتباهنا الى عالم من السلوك البشريّ والسياسي، مجهول من قبل الفكر الحديث، العاجز عن تفسير ظاهرة التعلق بالعائلة،وبالأصدقاء،وبالوطن".