&
" ليس سهلا أن نتجاوز الخوف "، الخوف من الآخر، الخوف على المعتقد وعلى الفكرة أو النموذج، يمكن أن نقول بأن مشروع الباحث الأمريكي البروفيسور بول هايك ( Paul L. Heck ) أستاذ الدراسات الإسلامية في قسم اللاهوت في جامعة جورج تاون، والمدير المؤسس لمشروع الأديان عبر الحضارات؛ محاولة أصيلة وشجاعة لتجاوز هذا الخوف، بالأخص عبر تركيزها على الجانب الأكثر قتامة اليوم وهو الخوف من المسلمين.&
الرجل على دراية مهمة بعقائد المسلمين، بل ودقائق اختلافاتهم العقدية والفقهية والتاريخية، إلى جانب إلمامه بلهجات مناطق إسلامية مختلفة، مصر ولبنان والمغرب. والتي عاش في كل منها مراحل زمنية مختلفة، وخالط أهلها، وقدم الكثير من الدراسات التي تحاول فهم بنى التفكير الحضارية عند المسلمين، وألف كتبا حول القيم المشتركة التي يمكنها أن تشكل أرضية مشتركة بين الأديان، من مثل كتابه: (Common Ground: Islam, Christianity, and Religious Pluralis- الأرضية المشتركة: السلام، المسيحية والتعددية الدينية) &وكتابه: (The Construction of Knowledge in Islamic Civilization- تكامل البنى المعرفية في الحضارة الإسلامية ).
لكن السؤال هنا: ما الذي يجعل هذا المشروع مدعاة للاهتمام والتأمل؟. باختصار يمكن تركيز الدواعي فيما يلي:
- محاولة الأخير تكسير هواجس الخوف من المغاير والمختلف، وتجسير الروابط المعرفية والدينية معرفيا، وكذلك إيمانيا، فالباحث يعتقد يقينا بأن المؤمن سيجد الكثير من القيم والأفكار ، وحسب عبارته "الهدى" داخل كل الأديان، أشياء تدعوه للاتصال والتعارف، وكذا الاستثمار.
- ليست دوافع المشروع جلب المسلمين للاعتقاد بمعتقد يخالف إيمانهم، أو دفعهم لسلوك ما، كالتبشير مثلا، وإنما الهدف الرئيس التعرف على معتقدات المؤمنين الفعلية سواء في الغرب أو الشرق (المسيحية واليهودية والإسلام وأفكار اللادينيين)، بعيدا عن الصور النمطية والأحكام التعميمية التي يروج لها الكثير من الباحثين عن حسن نية أو عن سوء نية.&
- التركيز على البعد العلمي، عبر استدعاء المتخصصين –على سبيل المثال- في علاقة الأديان بالقانون، وتاريخ المسيحية، والمسيحية السوداء، والتاريخ الأمريكي في علاقته بالعنف والدين ..الخ، لكن دون الاكتفاء بذلك وإنما مشفوعا بالبعد العملي في المعرفة، فالرجل يعتقد بأننا حين نتواصل عبر اكتشاف ممارساتنا اليومية نفهم عن كثب حقيقة معتقدات الآخر، ونمطه في الحياة، وتمثله الديني لها، ومدى تمسكه وحبه لمعتقده. ولا يمكن أن نعبر لهذه المرحلة في الاكتشاف إلا عبر تجاوز الحواجز بيننا، ليست العملية سهلة طبعا، لكنها تأخذ قيمتها حين نحاول ونتجاسر على خوض التجربة، لتتأكد القيمة عبر نتائجها في المحصلة. فرغم أننا نعيش العولمة، فإن الكثير من التعميمات الخاطئة سرت بيننا بسرعة كبيرة ولقيت انتشارا تذرع برغبة تاريخية دفينة في رفض الآخر. ولهذا يركز الرجل على قيمة الاكتشاف عند الجميع لما عند الآخر عبر الحياة العملية، زيارة الكنائس، والأديرة، والمساجد، الأسواق واكتشاف الحياة الاجتماعية ومختلف أنشطة المجتمع المدني، بل ودخول بيوت أصحاب الدين الآخر واكتشاف كيف يعيش الآخر دينه وكيف يتمثل قيمه ومعتقداته في أكثر الأمكنة حميمية (بيته).
- من الأفكار المهمة في المشروع أن المعرفة تتوطد بالصداقة، فالصديق نشاركه الإنسانية ونستفيد منه كما يستفيد هو، لهذا فهو لا يخجل من التصريح بأنه استفاد من المسلمين كثيرا ولا يزال، وبأنه يكتشف ذاته ويعمق إيمانه المسيحي عبرهم. ويريد للمسلمين اكتشاف وعيش الأمر عينه، بصداقة غيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى عن قرب لتقوية إيمانهم واكتشاف أنفسهم من جديد.
- ما يميز مشروع الرجل كذلك، اهتمامه الكبير بأسئلة تؤرقنا جميعا؛ علاقة العنف بالأديان ؟ مستقبل المنظومة الأخلاقية في العالم ؟ إلى أين يمكن أن تصل بنا قيم الخوف والعداء للآخر ؟ والسؤال المزدوج: هل نعرف بعضنا فعلا ؟ وهل تفرقنا أدياننا أم أنها تحمل بذور الكثير مما يمكنه أن يقارب فيما بيننا؟ &
في لقاء مع طالبة في جامعة جورج تاون، مهتمة بالبحث في الأديان، والتي تحدثت عن تجربتها الروحية – ضمن حلقات شاهد على الهدى في المشروع - وكيف أن جيلها اليوم لا يعتقد بأي دين وإنما احترام الرواحنية الذاتية والبحث الذاتي المتوتر واليقظ إزاء كل ما يكنه أن يمنح اطمئنانا روحيا للإنسان، عبر الرواية والمسرحية والفلم وكل ما يمكن أن يقابلنا في هذا العالم. لهذا فهي تنتمي حسب ملاحظة البروفيسور بول إلى الجماعة التي تتقاسم معها هذه الروحانية دون أن يكون لأي منهم اختيار ديني معين. العملية أشبه بما أسمته هذه الطالبة بـ " vigilant wonder &" كأنه تقديس لهبة الاستشعار الفكري المندهش من كل أشياء وأفكار وموجودات هذا العالم. لكن الأجمل في القصة، أن هذه التجربة نموذج حي لاكتشاف إيماننا، نموذج للتعرف على ذواتنا؛ كيف تتمثل محيطها وتاريخها وعلاقتها بالمعتقد الموروث. ولهذا يركز المشروع على قيمة كسر الحواجز بيننا واكتشاف إيماننا عبر الصداقة وتجاوز الخوف. فالعملية عنده أشبه بمغامرة معرفية وروحية تتميز بالكثير من الخلاصات الإيجابية على مستقبل العلاقة بين الأديان وأهلها ومستقبل الإنسانية.
تستحق هذه المشاريع اليوم تنويها خاصا، واهتماما نوعيا، بالأخص أنها تسير معاكسة تيار الخوف المنتشر من الإسلام وأهله، ومعاكسة كل الجهالات التي تحف واقعنا، مستندة للمعرفة والعلم في فهم الآخر من مصادره، وحسب الطريقة التي يقدم بها نفسه، لا كما نتصوره نحن. لهذا، يمكننا القول ودون مبالغة أن هذا المشروع يمكنه أن يشكل أرضية جديدة لعلم الأديان، بحيث لا ينحسر انشغاله بالنظري فحسب وإنما في التباسه بالواقع وكيفيات الاعتقاد والتمثل عند المؤمنين، إلى جانب قيمة التركيز على الجوانب الحضارية المشتركة و كل ما يمكنه أن يشكل قيم استفادة متبادلة تخدم مستقبل الإنسانية اليوم.&
&