بعد أن انتهيت من موسوعة الكون الميسرة من خمسة أجزاء التي تجاوزت صفحاتها الألفي صفحة، واستغرقت خمسة أعوام في كتابتها، وثلاثين سنة لإعدادها وتهيئة مصادرها ومراجعها، ونشرت منها لحد الآن ثلاثة أجزاء، وكتاب جانبي عن نفس الموضوع بعنوان " إله الأديان وإله الأكوان"، وجدت نفسي، بعد تأمل عميق ومعاناة مؤلمة وقلق وجودي بلغ حده الأقصى، أراوح في نفس المكان وأعود للمربع الأول ولنقطة الصفر، ما دفعني لمراجعة نفسي وقناعاتي ومعلوماتي وغاياتي والأهداف التي رسمتها لنفسي والرسالة التي تمنيت إيصالها لقرائي. لم يبق أمامي سوى طريقين لا ثالث لهما إما الجنون والتخلي عن هذا العالم، أو المضي بلا تأني ولا حيطة لبلوغ النهاية أينما كانت تختفي، والتوصل إلى حقيقية، أياً كانت ماهيتها. فالعالم الذي نعيش فيه موجود حولنا كما نعتقد ونشعر وهو مادي كما نحسه ونلمسه، ولكن هل هذه حقيقة مطلقة؟ ألا يمكن أن يكون وهماً أو واقعاً افتراضياً لكننا لا نعلم به ولا نعرفه، وهل توجد فعلاً حقيقة مطلقة أم أن كل شيء نسبي عدا الوجود بشموليته وتركيبته المطلقة اللانهائية؟ كل ما نقوله ونفعله ونكتبه ننشره، يبقى مستعصياً وغير مفهوم ومهملاً من قبل الأغلبية الساحقة من الكائنات الحية الموجودة على هذه الأرض، ومن ترميه الظروف أن يتعاطى مع ما تفرزه قريحتنا، إما أن يرفضه ويذمه ويحرمه ويعمل على تسقيطه وتدميره، أو يمتدحه إلى حد المبالغة والمغالاة دون أن يعرف السبب لذلك.

فنحن لا نعرف في واقع الأمر سوى ما نراه بأبصارنا وما ترصده أجهزتنا وتلسكوباتنا وتكتشفه، ومن ثم تشرحه مختبراتنا. وعندما نتأمل السماء فوق رؤوسنا نجد فيها شبكة من&النجوم التي نراها بالعين المجردة ولو حاولنا أن نعدها فلن نخرج بأكثر من بضعة آلاف، بل وحتى أفضل التلسكوبات لا تعطينا أكثر من خمسة عشر إلى عشرين مليون نجمة قابلة للرصد المباشر، ولا ندري إن كانت كلها داخل مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، أم أن هناك الكثير منها بقع خارج مجرتنا أو بيتنا الكوني وإن جارتنا آندروميدا أو المرأة المتسلسلة قد لا تحتوي أكثر بكثير مما تحتويه مجرتنا وهي الأقرب إلينا و لا تبعد عنا سوى 2.5 مليون سنة ضوئية، والباقي ليس سوى تقديرات وتخمينات وتكهنات وحسابات رياضية قد تكون صحيحة وقد تكون مغلوطة أو على أقل تقدير، مع توفر حسن النية، أن تكون ناقصة وغير وافية. إن المستوى التكنولوجي والعلمي الذي وصلت إليه البشرية في منتصف القرن الحادي والعشرين ما يزال في طوره الطفولي والبدائي، وبالتالي فإن معلوماتنا الكونية محكومة بما لدينا من معطيات متراكمة ومعلومات وفرتها لنا مراصدنا الأرضية والفضائية وكلها محكومة بعقبة محدودية سرعة الضوء، والتي لا تتجاوز الــ 299792 كلم/ثانية وتجاوزاً نقول 300000 كلم/ثانية، بمعنى آخر إن الضوء القادم إلينا من أقرب جارة لنا وهي مجرة آندروميدا يحتاج إلى مليوني سنة ونصف من سنواتنا وهو يسير بهذه السرعة الهائلة ما يعني أنه عندما يصل إلينا يكون قد مضى على عمر المجرة مليونين ونصف المليون سنة أي ما يصلنا هو ماضيها السحيق و لا نعرف وضعها الحالي وحاضرها وهل ماتزال على قيد الحياة أم اختفت، فلو كان الضوء الواصل إلينا يحمل لنا صورة المجرة فستكون قد عفا عليها الزمن، فما بالك لو جاء الضوء من أماكن كونية أبعد بكثير؟ إنه شعور بالعجز والجهل المطبق الدائم والإحباط المسيطر علينا ونحن نبحث في ظلام الوجود عن بصيص أمل أو ضوء في نفق مظلم قد لا نعثر عليه أبداً، فكوننا المرئي يبقى مجهولاً ولغزاً حتى على أكبر العقول. فمن المستحيل على البشرية أن ترصد يوماً تخوم الكون المرئي أو المنظور، فما بالك بما يوجد وراء الأفق الكوني؟ لقد فرضت علينا طبيعة المادة أن تكون سرعة الضوء محدودة ومحسوبة بدقة وهي تنتقل داخل الفراغ الكوني.

فضوء القمر يحتاج لثانية لكي يصل إلينا، وضوء الشمس يحتاج لثمانية دقائق ونصف الدقيقة ليصل إلينا، وأقرب نجمة إلينا هي آلفا دي سنطور يستغرق ضوءها أربع سنوات وثلاثة أشهر ليصل إلينا. ولقد تمكن العلماء من حساب عمر أقدم نجم من جيل النجوم الأولى التي تكونت بعد حدوث الإنفجار العظيم البغ بانغ، وقدروه بــ 13.4 مليار سنة ضوئية وتاريخ حدوث الانفجار العظيم لا يتجاوز الــ 13.8 مليار سنة ضوئية، والحال إنه يستحيل علينا في الوقت الحاضر تجاوز هذه الحسابات بما لدينا من معطيات مسجلة. لو تصورنا كوننا المرئي عبارة عن كرة ضخمة فإن نصف قطرها الحالي يصل إلى 45 مليار سنة ضوئية بسبب التمدد والتوسع الكون الذي يحدث باستمرار، منذ مرحلة الانفجار العظيم إلى اليوم. لقد كرس علماء الكونيات وعلماء الفيزياء جل وقتهم وجهودهم لمعرفة خفايا هذا الكون المرئي وافترضوا أن المجرات تحتوي كل واحدة منها على ما لا يقل عن 100 مليار نجم فما فوق وهو العدد المقدر في مجرتنا درب التبانة، فإن المجموع الكلي لعدد النجوم في كوننا المرئي لا يقل عن 2310 أي أكثر من عدد حبات الرمل الموجودة على الأرض، لكن الحسابات الرياضية الدقيقة تقول إن الكون المرئي أكبر من ذلك بكثير وبعض مناطقه البعيدة لم يصلنا ضوءها بعد وتحتاج لبضعة مليارات أخرى من السنين الضوئية، وقد لاتصل أبداً إذا استمر التوسع الكوني بإيقاعه الحالي، وسوف يتجاوز التقدير الحالي وهو 45 مليار سنة ضوئية الذي يتواجد فيه الأفق الكوني، فالأفق البحري الذي نراه من فوق سطح سفينة مبحرة في وسط البحر لا يعني إنه هذه هي حدود البحر، وينطبق نفس الشيء على الكون المرئي. ويقدر حجمه أكبر 300 مرة من النطاق المرصود، وقد يصل عدد نجومه إلى 5210، ولا يستطيع أحد أن يؤكد أو يدقق في صحة هذه التقديرات الحسابية النظرية لأن الضوء القادم من تلك النجوم الواقعة خلف الأفق الكوني لا يمتلك الوقت الكافي ليصل إلينا، وإن الكون المرئي يكبر ويتوسع في كل يوم بمقدار يوم ضوئي وهي عملية مستمرة إلى ما لا نهاية، وكلما ابتعدت المنطقة التي تتواجد فيها النجوم الواقعة وراء الأفق الكوني، كلما ازدادت سرعة ابتعادها عنا التي قد تتجاوز سرعة الضوء المعروفة لدينا اليوم.

والجدير بالذكر إن سرعة الضوء هي محدودة فقط داخل إطار الزمكان الآينشتيني في نطاق الكون المنظور ولا ينطبق على سرعة توسعه التي جعلت بعض مناطق الكون تقع على بعد 62 مليار سنة ضوئية، حسب آخر التقديرات. نحن نتحدث هنا فقط في مجال اللامتناهي في الكبر، الذي يبحث كذلك في مقولات أو نظريات التعدد الكوني، والأكوان المتوازية، والتكرار الكوني، والتتابع الكوني أو الحلقات الكونية المتعاقبة، أي إن هذا الكون المهول، ليس سوى جسيم أولي في محيط لامتناهي من الأكوان، ولم نلج المنطقة المحرمة في اللامتناهي في الصغر لغرابتها وغموضها وتعقيدها التي تعالجها فيزياء الكموم أو الكوانتوم وفيزياء الجسيمات الأولية التي سنتطرق إليها بتفصيل أكبر في مقالات لاحقة.

كتب العالم الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء ستيفن وينبيرغ، بهذا الصدد:" خطأنا يكمن ليس في أننا لا نأخذ نظرياتنا على محمل الجد، فحسب، بل أننا لا نعتقد كفاية بجديتها ورصانتها وأناقتها. فمن الصعب أن ننتبه إلى أن الأرقام والأعداد والمعادلات الرياضية التي نلعب بها في مكاتبنا لها علاقة جوهرية وحقيقية مع العالم الواقعي الذي نعيشه فيه وتؤثر عليه". وغالباً ما يركز العلم على التفاصيل ويقول لنا لماذا تدور الكواكب في مدارات دائرية أو بيضاوية أو إهليجية ولماذا تكون السماء زرقاء اللون ولماذا يكون الماء شفافاً ولماذا نشعر بالمكان الذي نقف فيها مستقرا وثابتاً أو ساكناً بينما نحن في حركة دائمة وجنونية، ومهما كانت هذه الإشارات طبيعية فمن المدهش أن العلم توصل إلى شرحها وتوضيحها بأدواته البدائية الحالية. مثلما توصل إلى إثبات وجود مجرات أخرى إلى جانب مجرتنا درب التبانة التي أعتقد القدماء أنها هي الكون، وإن كل مجرة تمتلك أكثر من مائة مليار شمس كشمسنا أو أكبر أو اصغر منها، واكتشف وجود مادة مضادة و مادة سوداء أو مظلمة وطاقة سوداء أو داكنة أو معتمة. وفي أغلب الأحيان يضع العلم الإنسان في حالة تحدي ويرغمه على مراجعة البديهيات والمعطيات العلمية الراسخة والمثبتة ويعاود النظر فيها، حتى لو كانت تستند على معادلات رياضية متينة تصف قوانين الطبيعة&وقوانين الحركة والسكون والقصور الذاتي غيرها، ومعادلات الكهرومغناطيسية من ماكسويل إلى شرودينغر في الميكانيك الكمومي، وهناك القيم الثابتة للثوابت الكونية، وأخيراً تجاوز الشروط التأسيسية لأية نظرية. فبدون هذه الروحية الانتحارية لدى العلماء لن يتقدم العلم ويبقى يراوح في مكانه. لذلك علي أن أبدأ من الصفر وأخوض التجربة بالاتجاه المعكوس لعلي أعيد اكتشاف الأشياء وتخطي البديهيات، قبل أن يصيبني اليأس.