&
لا توجد ديانة و لا توجد فلسفة &ولا يوجد علم، ما لم يواجهوا &معضلة الزمن. ولقد عبر عن ذلك بأناقة &الفيلسوف &والكاتب الفرنسي غاستون باشلار Gaston Bachelard بجملة الشهيرة:" إن التأمل في الزمن هو المهمة الأولية لأية ميتافيزيقيا ". لأن الميتافيزيقيا هي الحجر الأساس &للتفكير البشري إلى جانب الواقع والطبيعة. فالفيزياء المعاصرة تمكنت من التحرر من مفهوم الزمن المطلق والشامل الذي صاغه إسحق نيوتن بقوانين الميكانيك الطبيعي وقيدت نفسها بمفهوم الزمن النسبي المطواع &الذي صاغه ألبرت آينشتين وهو زمن يمكن أن يتباطأ أو يتسارع حسب حركة المراقب أو كثافة مجال أو حقل الثقالة أو الجاذبية الذي يتواجد فيه الزمن. وبالتالي فهو لم يعد شمولياً وكونياً، بل متغيراً. فماضي واحد من الناس قد يكون مستقبلاً لآخر . وهناك فرق بين الزمن الفيزيائي الذي يتعامل معه العلم والزمن النفسي أو السيكولوجي الذي يتعامل معه الناس ويشعرون به. وحتى اتجاه سهم الزمن المألوف الذي ينطلق باتجاه واحد ثابت لا يتغير ولا يمكن عكسه، لم يعد صالحاً فهو ليس أكثر من &ملصق &أو عنوان معنوي ونفسي ليس إلا.
ليس من السهل الإحاطة بوضوح بمفهوم الزمن، كما لمس ذلك الفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين في القرن الرابع الميلادي حين قال:" ما هو الزمن؟ إذا لم يسألني أحد عنه فأنا أعرف، &ولكن ما أن يسألني أحدهم عنه، &ويطلب من أن اشرحه له، فإني أجهل ما هو ولم أعد أعرف كيفية مقاربته". وللزمن أهمية في الفيزياء وفي الميتافيزيقيا، وما أن يبدأ العلماء بدراسة الطبيعة حتى يصطدموا بمعضلة الزمن إذ أن هذا الأخير يحسب ما هو موجود أو ما هو سريع الزوال والحال إن العلماء يبحثون عن القوانين الدائمة، أي العلاقات &اللامتغيرة & الراسخة وغير القابلة للتنوع &والتي تفلت من مصيدة التبدل.&
كان غاليلو غاليله أول من أدخل الزمن كبعد فيزيائي &جوهري لتنظيم وربط حساباته رياضياً، خاصة تلك المتعلقة بحركة الأشياء، وذلك منذ القرن السادس الميلادي. ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر ليصيغ أول تعريف واضح للزمن في إطار قوانين الميكانيك &النيوتني. فهو يحدد حركة الأجسام في الفراغ بتحديده لموقعها وسرعتها في أوقات متعاقبة. فالزمن النيوتني ، بهذا المعنى، فريد من نوعه، مطلق، وشامل، ولا يتغير ولا يـتأثر بمحيطه، أي مستقل عن الأشياء والمكان. فهو يجري بنفس الطريقة بالنسبة لأي شخص ولأي مراقب في الكون المرئي، حيث الجميع يتقاسمون نفس الماضي والحاضر والمستقبل. فالزمن والمكان متميزان ومنفصلان عن بعضهما على نحو صارم وقطعي. فالزمن يجري ويمضي دون أن يتأثر بأي تفاعل مع المكان .
وفي بداية القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1905، تم الطعن بهذا المفهوم الجامد للزمن المطلق على يد آينشتين في نظريته النسبية الخاصة. لقد فقد الزمن جموده وتصلبه وطابعه الشمولي والإطلاقي الذي منحه إياه نيوتن. فلم يعد غير مبالي بالكون المرئي الذي يجري فيه على نحو ثابت كما كان يعتقد الناس، بل بات مطاطياً مطواعاً وتبين أنه يعتمد على، ويخضع إلى، حركة وسرعة المراقب، وكثافة المحيط المكاني الذي يحتويه. فكلما أسرعنا كلما تباطأ الزمن، وهو المبدأ الذي ورد في نسبية آينشتين الخاصة ، أي تباطؤ الزمن مع السرعة. فالشخص الذي يسافر على متن مركبة فضائية تسير بسرعة 87% من سرعة الضوء سيلمس أن زمنه ينخفض للنصف &ويشيخ بمقدار النصف عن توأمه الذي بقي على الأرض. إن هذا التباين في الزمن حقيقي ومثبت علمياً بالتجربة المختبرية بفضل الساعات الذرية البالغة الدقة. ولقد أطلق العالم الفيزيائي الفرنسي لانجفان &Langevinعلى هذه الظاهرة الفيزيائي العلمية تسمية " مفارقة التوأم" لكننا لا نشعر به في حياتنا اليومية نظراً لضآلة السرعات التي نمارسها لكنها تبدو واضحة للعيان كلما اقتربنا من سرعة الضوء وهي 300000 كلم/ثانية، فلقد أظهرت الحسابات الكومبيوترية أن الزمن يتقلص سبع مرات إذا سرنا بمعدل 99% من سرعة الضوء، ويتباطأ بمقدار 22.4 مرة إذا سرنا بمعدل 99.9% من سرعة الضوء ويصبح الزمن صفراً إذا بلغنا سرعة الضوء.&
التطور الجوهري الآخر الذي أصاب مفهوم الزمن هو أنه لم يعد مستقلاً عن المكان، فآينشتين جعلهما زوجين مرتبطين معاً إلى ألأبد. فالمكان يغدو هو الآخر بدوره مطاطاً ومطواعاً، فسلوك &الزوجين، المكان والزمن، &متكامل، ولهما نسيج واحد سماه آينشتين " الزمكان" فعندما يتمدد الزمن ويغدو أبطأ فإن المكان بدوره يتقلص. فلو غادر أحد التوأمين الأرض على متن سفينة فضائية تطير بسرعة 87% من سرعة الضوء فإنه سوف يشيخ بمقدار نصف المدة التي سيشيخ فيها شقيقه الباقي على سطح الأرض لأن الزمن يتباطأ بالنسبة له بمقدار النصف ، كما ستبدو السفينة الفضائية بالنسبة للشقيق الباقي على الأرض كأنها تقلصت إلى نصف حجمها، فالتشوهات &والتغيرات التي تمس الزمان والمكان يمكن اعتبارها بمثابة تحولات للمكان إلى زمان وبالعكس. فالمكان الذي يتقلص يقابله تمدد واستطالة في الزمان وبالعكس. من هنا اعتبر آينشتين أن للكون أربعة أبعاد ثلاثة مكانية هي الطول والعرض والارتفاع والرابع هو الزمن، ولتحديد إحداثيات أي جرم سماوي في الكون المرئي يجب إعطاء الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزماني الرابع .
كما إن الزمن يتباطأ أيضاً ليس فقط بفعل السرعة فحسب ، وإنما كذلك بفعل الجاذبية أو الثقالة كما أعلن آينشتين ذلك سنة 1915 في نظريته النسبية العامة. فالجسم الموجود بالقرب من ثقب أسود ضخم يتأثر بجاذبية الثقب الأسود المهولة ويسير الزمن بالنسبة له ببطء شديد أما في داخل الثقب الأسود فالزمن يصبح صفرا ويندمج الماضي &والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة وهو أمر يصعب إدراكه أو تصوره من قبل الإنسان العادي. فالزمن ليست متشابهاً لكل شخص. فحاضري يمكن أن يكون ماضي لشخص آخر ومستقبل لشخص ثالث في حال كونهما متحركين بالنسبة لي ومرتبطين بحركتهما بي. لأن مفهوم التزامنية يفقد معناه، ومفردة " الآن" تغدو غامضة وبلا معنى. فمرور الزمن حسب آينشتين ليس إلا وهم.&
لابد من تمييز الزمن النفسي أو السيكولوجي وهو ذاتي subjectif، عن الزمن الفيزيائي الذي من المفترض أن يكون موضوعياًobjectif & ويمر بالتساوي أو يجري على نحو غير منتظم وغير متماثل ولا يعتمد على وعينا وغير مرتبط به. فالزمن الفيزيائي هو زمن الساعات Horloges . ونقيسه وفق حدوث حركة منتظمة كتذبذبات ذرة أو حركة دوران الأرض على نفسها الخ.. لذلك فإن الحديث عن الزمن أو المكان قبل ولادة الكون المرئي ليس له معنى، &لعدم قياس أية حركة تذكر آنذاك. ففي نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ، ولد الزمن والمكان في آن واحد بالتزامن مع ولادة الكون المرئي. ولقد عبر القديس أوغسطين عن ذلك بحذاقة قائلاً :" إن الزمن ظهر مع ظهور العالم، ومن السخافة بمكان التفكير بأن الله انتظر زمناً لانهائياً قبل أن يقرر خلق العالم. فالزمن والعالم ظهرا معاً في نفس الوقت:" فالعالم خلق ليس داخل الزمن بل مع الزمن" وهو ما أكدته المعارف الحديثة في علم الكونيات الحديث أو الكوسمولوجيا المعاصرة.&
بيد أن هذه المقاربة تنطوي على مفارقة وهي : هل إن الله موجود خارج الزمن أم داخله أم وجد معه في نفس لحظة خلقه للكون والزمان والمكان؟ هل الله موجود زمانياً قبل خلق الكون؟ و ما هو الزمن المناسب له قبل ظهور الزمن الفيزيائي المخلوق على يديه ؟ &
هناك الزمن النفسي وهو يطول ويقصر حسب الحالة النفسية والسيكولوجية وشعور المرء ومكان تواجده فتارة تبدو اللحظات تجري ببطء شديد &وتارة أخرى تبدو وكأنها تجري بسرعة كبيرة حسب علاقاتنا بالطبيعة والمحيط والظروف السيكولوجية لكل واحد منا . وهذا هو الزمن &الواقعي وهو نسبي وبسيط حيث الماضي مليء بالذكريات والمستقبل مليء بالانتظارات والتمنيات، فنشاطنا العقلي والدماغي هو الذي يجعلنا نشر بمرور الزمن. وهناك الزمن المركب &وهو زمن متخيل أو خيالي &وله وجود رياضي وتجريدي وهو النوع الذي يمكن أن يكون موجوداً قبل الانفجار العظيم الذي يسميه البعض بالزمن الإلهي. فداخل الكون المرئي لا توجد كينونة واحدة للزمن فهو مختلف في كل مكان فنحن على الأرض نتلقى الضوء القادم من نجوم بعيدة جداً لكنه عندما يصل إلينا يكون قد استغرق وقتاً طويلاً، ولو كان ينقل لنا صوراً عن الحياة داخل تلك النجوم فإنه سينقل لنا ماضيها البعيد لأنها قد تكون ماتت واندثرت منذ مليارات السنين عندما يصل ضوئها إلينا، في حين يكون وصول الضوء الصادر من تلك النجوم إلى أنظمة شمسية قريبة منها ينقل ماضيها القريب جداً وربما حاضرها لو كانت تلسكوبات تلك الكواكب ترصدها على نحو مباشر كما نرصد نحن القمر ومن الممتع مشاهدة فيلم انترستيلر interstellaires لأخذ فكرة عن موضوع تباين الزمن حسب الحركة والسرعة والاقتراب من الثقب الأسود.
يتبع
&