مرت عقود طويلة دون أن يحدث أمر جوهري مزلزل في مجال الإنجازات العلمية والتكنولوجية المتعلقة بالفيزياء &وعلم الكونيات ، وكان آخرها قد تمثل في اكتشاف بوزون هيغز وهو بمثابة الحلقة المفقودة والجزء الناقص من فيزياء الجسميات الأولية الدقيقة التي يتضمنها النموذج المعياري، والذي &يفسر وجود الكتلة في بعض الجسيمات حيث تم اكتشافه رسمياً في عام 2012 في مصادم ومسرع الجسيمات العملاق LHC في &مركز الدراسات والبحوث النووية سيرن &CERN الواقع على الحدود الفرنسية السويسرية بالقرب من جنيف، وكذلك تم اكتشاف الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية بعد ذلك بقليل.
ولقد اعتقد العلماء أن لا شيء مذهل سيكتشف بعد الآن بيد أن مصادم الجسيمات الدقيقة بات يعمل بطاقته القصوى قبل بضعة شهور حيث أجريت فيه العديد من التجارب المهمة . وفجأة اكتشف العلماء جسيماً جديداً غير معروف من قبلهم &أسموه الجسيمإكس " X" في نهاية نوفمبر سنة 2015 من قبل كواشف المختبر الدقيقة &أطلس Atlas و سي أم أس CMS. فما هو هذا الجسيم وماذا يمكن أن يمكن أن يمثله بالنسبة لأبحاث اللامتناهي في الصغر وسبر أغوار وأسرار المادة ؟&
لقد عبر البعض عن ذهوله بالقول أن ظهور هذا الجسيم فجأة وبلا مقدمات، يعني أن الكون الذي نعيش فيه ليس كما كنا نعتقده، بل ما يزال مغلفاً بالغموض والأسرار والألغاز. فهل الجسيم إكس X هو القوة الخامسة الجوهرية للكون المرئي؟ أم هو البعد الرابع &للزمكان الذي تحدثت عنه روايات وأفلام الخيال العلمي؟ أم هو الدليل القاطع على صحة نظرية التناظر الفائق supersymétrie؟ إنه على أية حال علامة على أن كل شيء سيتغير في الأشهر والسنوات القادمة في مجال الفيزياء النظرية وفيزياء الكونيات الكوسمولوجيا وفيزياء الجسيمات وميكانيك الكموم أو الكوانتوم.&
لنتوقف قليلاً عند موضوع التناظر الفائق supersymétrie وفيزياء الجسيمات الأولية والنموذج المعماري لنفهم أهمية هذا الاكتشاف لجسيم إكس X. فمهمة علماء فيزياء الجسيمات الأولية عسيرة جداً وليست سهلة لأنهم يتعاملون مع أشياء غاية في الصغر لا يمكن رؤيتها على نحو مباشر وبالرغم من ذلك تمكنوا من اكتشاف وتشخيص جميع الجسيمات الأولية الموجودة حسب اعتقادهم ودرسوا تفاعلاتها وتوصلوا إلى مفهوم التناظر وإنه يكفي أن نعرف خصائص ومزايا التناظر لكي نحدد بنية التفاعلات الجارية بين الجسيمات وكانت النتائج المستخلصة هي التي قادتهم إلى صياغة النموذج المعياري standard &modèle في فيزياء الجسيمات. وبفضل ما تراكم لديهم من معلومات تمكن العلماء من وصف سلوكيات الجسيمات في كافة الظروف الحرارية والطاقوية لكنهم لم يفلحوا في إدخال قوة الجاذبية أو الثقالة في المعادلة التوحيدية للقوى الجوهرية الكونية الثلاثة الأخرى ولذلك بقيت الثقالة أو الجاذبية خارج النموذج المعياري وحبيسة لمفهوم اللامتناهي في الكبر الخاضع لمعادلات النسبية الآينشتينية، وإن الحل الوحيد قد يكون موجوداً في نظرية التناظر الفائق التي اقترحها الفيزيائي الفرنسي بيير فايت Pierre Fayet. وهي تقيم جسراً بين المادة وعمليات التفاعلات الجارية فيها حيث يتم وصف القوى والجسيمات على نحو مماثل. لذلك يتطلب الأمر مضاعفة المادة والقول بأن لكل جسيم معروف هناك تناظر فائق حتمي وإجباري يجب أن يكون موجوداً، أي جسيمات نظيرة سميت بالشريك التناظري الفائق partenaire supersymétrique مما يعني مضاعفة عدد الجسيمات على نحو آلي، من هنا أعتقد البعض أن الجسيم الجديد إكس ما هو إلا واحد من الجسيمات التناظرية الفائقة سوبرسيميتريك غير المكتشفة بعد .
لذا مما لا شك فيه أن هذا الحدث يمثل انعطافة جوهرية في مسيرة العلم وسيكون هناك ما قبل وما بعد جسيم إكس X . لقد ظهر ما يزيد على الثلاثمائة بحث ومقالة عن هذا الحدث وكلها تدور في نطاق التخمينات والافتراضات ويحتاج الأمر إلى شهور عديدة وربما لسنوات طويلة قبل البت في أمره فليس من السهل تحديد وتشخيص طبيعة التقلبات والتأرجحات الكمومية أو الكوانتية fluctuations quantiques ، ولكن يبدو أن المستحيل قد حدث كما يقول بعض العلماء الذي اعتقدوا في السابق أنهم باتوا يعرفون كل شيء عن المادة ومكوناتها، &أي الستة وعشرون جسيماً أولياً المعروفة التي يتضمنها النموذج المعياري &standard &modèle &وهي موزعة كالآتي : 12 جسيم للمادة مثل الإلكترون &électron والكواركات quarks &والنيوترينوات neutrinos ، و 13 جسيم التي تنقل أو تحمل تفاعلات القوى الجوهرية الأربعة في الكون المرئي، مثل &الفوتون photon والغليونات &gluons &والبوزونات bosons ، والغرافيتون &graviton الذي يفترض أنه الناقل والحامل لقوة الجاذبية والذي لا يشك أحد بوجوده رغم عدم رصده وكشفه مختبرياً لحد الآن ، ومن بينها بالطبع بوزون هيغز الشهير الذي تم اكتشافه مؤخراً قبل أربع سنوات والذي يضمن الكتلة لبعض الجسيمات. &والحال أن هذا الجسيم الجديد والغريب المسمى إكس X لا هو بجسيم للمادة ولا هو جسيم لقوة &ولا هو الغرافيتون المرتبط بالجاذبية أو الثقالة، فالعلماء يعرفون كل خصائص وسمات ومزايا الجسيمات المكتشفة والمعروفة كالكتلة، واللف أي الفتل أو الدوران الذاتي المغزلي &السبين spin، والشحنة، والنموذج المعياري يتكهن بجميع أنواع التفاعلات التي تقوم بها الجسيمات الأولية المعروفة وبدقة متناهية ولم يخطيء &العلماء أبداً في هذا المضمار، فهم معتادون على تحليل كافة البيانات الناجمة عن تصادم الجسيمات في مسرع &مصادم الجسيمات العملاق، وهم يعرفون سلفاً عدد الفوتونات المسجلة وفق جدول الطاقات الذي يتبع خطاً بيانياً أو منحنى متسق تماماً ولكن فجأة ظهر نتوء فسره العلماء بأنه علامة على ظهور جسيم جديد ذو كتلة، تجسد من حيث لا يتوقعه أحد وهو ليس جزءاً من جسيمات النموذج المعياري قطعاً . وبالتالي فهو في الوقت الحاضر مجهول الهوية فلا هو جسيم مادي كلاسيكي و لا هو جسيم قوة كلاسيكي ولا هو تنويع من بوزونات هيغز ولا هو الغرافيتون الذي ينتظر العلماء اكتشافه بشوق لأن كتلة هذا الأخير شبه معدومة مما يميزه تماماً عن الجسيم إكس X المكتشف حديثاً. لذلك فهو شيء آخر مختلف تماماً لا أحد يعرف ماهيته أو هويته بعد. الفرضيات الممنوحة له في الوقت الحاضر تنسف كلها النموذج المعياري وتقترح رؤية جديدة لعالمنا المادي. وليس بوسع أحد الحسم إلا بعد إجراء المزيد من التجارب والاختبارات والحصول على معطيات تجريبية جديدة وبانتظار ذلك بات معلوماً الآن أن هذا الاكتشاف هو إعلان عن حدوث ثورة كبيرة مقبلة في الفيزياء، سوف تكشف لنا بأن النموذج للعالم الذي نعيش فيه والمكون من المواد والنجوم والغازات والحصى الخ .. هو في واقع الأمر أعقد وأكثر غرابة بكثير مما نتصور.&
طفحت خيالات العلماء بعيداً عندما تخيل البعض طوفاناً جديداً من الجسيمات الأولية &المجهولة الهوية قد تصل إلى 45 جسيماً جديداً حسب بعض المختصين في هذا المجال وقد يكون الجسيم إكس X مجرد الطليعة الممثلة لنظرية التناظر الفائقة التي قبعت في مدارج النسيان في الآونة الأخيرة وهي إحدى أكثر الامتدادات &المتخيلة والأكثر تألقاً للنموذج المعياري &لسد ثغراته أو فجواته . وتنص نظرية الناظر الفائق على أن لكل جسيم مادي هناك نظير له من جسيمات القوة يتوجب اكتشافه والعكس صحيح. ففي مقابل الكواركات quarks &هناك الأس كواركات s quarks ، وللغليونات &gluons هناك الغلوينوسات gluinos، وللغرافيتون &graviton هناك الغرافيتينو gravitino وهكذا.. فمقابل العالم اللامتناهي في الصغر من الجسيمات الأولية ما دون الذرية الذي نعرفه، هناك عالم خاص مماثل ومناظر له كالصورة في المرآة وهو غير مرئي بالنسبة لنا ولم يقتحمه أحد من البشر أو يلج إليه &أو يستكشفه بعد. &فعلى الورق نظرياً تتنبأ نظرية التناظر الفائق بوجود، ليس فقط نظير واحد لبوزون هيغز بل &بخمسة نظائر أثقل أكثر فأكثر، وما جسيم إكس X &سوى الثاني في هذه السلسلة والمعطيات المتوفر حالياً هن هذا الجسيم الجديد ، لا سيما فيما يتعلق بفتلته أو لفه ودورانه الذاتي المغزلي ، أي سبينه، تتوافق مع هذه الفرضية كما يقول عبد الحق جوادي الباحث في مختبر الفيزياء النظرية في أورسي. وبالتالي فإن هذا الجسيم &قد يكون الرسول لرؤية جديدة للتناظر الفائق ومن المتوقع أن يرفد بجسيمات جديدة أخرى مناظرة لما نعرفه في واقعنا المادي. اعترض علماء ومنظرون آخرون على هذه الفرضية رغم مقبوليتها، وقالوا بأن هذا الجسيم الجديد لا يمكن أن يكون علامة دقيقة على صحة التناظر الفائق بل يمكن أن يكون عبارة عن جسيم مركب على غرار البروتون الناجم عن تجمع لعدد من الكواركات المرتبطة بفعل التفاعل القوي أو الشديد، &والفرق هنا &هو أننا هنا إزاء تفاعل مكون من جسيمات أولية غير معروفة ومجهولة تماماً وترتبط ببعضها بفعل قوة غريبة هي أيضاً مجهولة تماماً من قبلنا ولا نعرف عنها شيئاً . ولا يتجاوز هذا المضاربات أو التخمينات الافتراضية &التي تشبه ما سبق أن اقترحه بعض العلماء والمنظرين من أفكار وفرضيات في سنوات السبعينات من القرن العشرين وغطاها النسيان لتعود اليوم بقوة بفضل هذا الجسيم إكس لأن المعطيات المتوافرة عن دورانه أو لفه الذاتي المغزلي أي سبينه تتطابق هي الأخرى مع هذه الفرضية ولو تحققت صحة هذه الفرضية فذلك سيعني أن هذا الجسيم هو مقدمة أو علامة لوجود قوة جوهرية خامسة في الكون المرئي إلى جانب القوى الأربعة المعروفة، وهي الثقالة أو الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية القوية أو الشديدة والنووية الضعيفة أو الواهنة. من هنا افترض البعض أن هذا الجسيم يخفي خلفه على الأقل ثلاث جسيمات مركبة أخرى ، ولكن لا أحد قادر على توضيح ما هي خصائص هذه القوة الكونية الجوهرية الخامسة وما هي ماهيتها وطبيعتها ومجال تأثيرها الخ..&
الفرضية الأكثر راديكالية التي تفسر ظهور هذا الجسيم الجديد والغريب المجهول إكس هو اعتباره علامة قادمة من البعد الرابع للمكان الآينشتيني ، أي غير الزمن، &وبالتالي فإن للزمكان الاينشتيني خمسة أبعاد. &فالجميع يعلم أن للمكان ثلاثة أبعاد مرئية وهي الطول والعرض والارتفاع أو العمق، فأين يمكننا أن نعثر على البعد المكاني الرابع؟ قد يكون منطوياً على نفسه وغير مرئي. إن فكرة أن يكون للمكان أكثر من ثلاثة أبعاد ليست جديدة في الفيزياء بل هي موجودة في قلب &نظرية الأوتار الفائقة وهي التي كانت مرشحة لأن تكون النظرية الجامعة والموحدة للقوى الكونية الجوهرية الأربعة &والرابطة بين نسبية آينشتين وميكانيك الكموم أو الكوانتوم. وتقول إحدى الافتراضات أن بوسع الغرافيتون ، وهو جسيم الثقالة أو الجاذبية، أن ينتشر في الأبعاد الإضافية حتى وإن كانت غير مرئية أو غير قابلة للرصد والمشاهدة، وهذا ما يفسر سبب كون الثقالة أو الجاذبية أضعف بمليارات المليارات المليارات المرات من باقي القوى الجوهرية الثلاثة الأخرى. وبالتالي فإن نزهة الغرافيتون أو حركته &في البعد المكاني الرابع يخلق نوعاً من الصدى للأبعاد المكانية الثلاثة الأخرى وفي حالة توفر طاقة هائلة ومركزة كما هو الحال في مصادم ومسرع الجسيمات العملاق LHC فإن بوسع هذا الصدى يتجسد على هيئة جسيم أولي خارج سياق منظومة الجسيمات الأولية التي يحتويها النموذج المعياري وذلك بموجب معادلة الكتلة والطاقة الآينشتينية الشهير وهي الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء E=mc2 والتي تربط الطاقة بالكتلة، من هنا قال العالم الفيزيائي ستيف غيدنغ من جامعة سانتا باربارا والذي صاغ البحث الأكثر كمالاً وقوة حسب &آدم فالكوفسكي من مختبر الفيزياء النظرية في أورسي في فرنسا، :" &أن الجسيم إكس الجديد يمكن أن يكون الغرافيتون ذو الكتلة ، مهما كانت ضعيفة، ويكفي أن نقيس لفه أو دورانه المغزلي الذاتي أو سبينه لأنه من بين جميع الجسيمات الأولية ، وحده الغرافيتون ونظائره أو نسخه العابرة للأبعاد هو الذي يمتلك سبين يعادل إثنين أي مزدوج وهو الدليل اللازم لإثبات أن المكان يمتلك أربعة أبعاد وليس ثلاثة ، وهذا بحد ذاته لو أقر سيمثل بلا شك ثورة &لاسابق لها في هذا المجال".
يتبع
&
&