غيرت تكنولوجية المواصلات والإتصالات العالم إلى قرية عولمة صغيرة، لتتفاعل الشعوب والأنظمة والشركات، ولتفرض على حكوماتها وبرلماناتها وقضاءها قوانين جديدة، مما أدى منذ ثمانينيات القرن الماضي، لمراجعة رأسمالية-2. فقد خلقت رأسمالية-2 بعد الحرب العالمية الثانية نوع من التوازن بين مسئوليات القطاع الحكومي والقطاع الخاص، ليتعاونا ويتفاعلا ويتناغما بشكل جميل في الديمقراطيات الغربية، وليؤدي ذلك لنمو قطاع خاص فاعل، ومنتج، ومبدع، مع نمو طبقة وسطى واسعة متعلمة، ومثقفة، ومنتجة، ومبدعة، وليتوفر لديها المال الكافي لتعيش حياة عصرية رغيدة، لتستطيع شراء سكنها الخاص، وتوفير التغذية السليمة والرعاية الصحية والتعليمية المتقدمة لعائلاتها. كما استطاعت هذه الطبقة الوسطى الغربية، بدخلها الكافي، أن تلعب دورا مهما في إستمرار التنمية الإقتصادية، بشرائها حاجياتها الحياتية المتنوعة من البضائع والخدمات المجتمعية، لتستمر المصانع في زيادة إنتاجها، مما وفر العمل المناسب، والراتب المجزي، للموارد البشرية في المجتمع، ولتستمر التنمية المستدامة في المجتمعات الغربية، ولتنضم معها الكثير من المجتمعات الدولية الأخرى. ومع زيادة منتجات ومبيعات وأرباح الشركات الخاصة الصناعية والخدمية، استطاعت أن تخصص جزءا من أرباحها لتنمية مواردها البشرية، وتطوير أبحاثها، لإختراع صناعات جديدة، ليستمر النمو الإقتصادي. ولقد تعرضت الرأسمالية-2 لتحدي جديد في نهاية السبعينيات، بعد أن حقق القطاع الخاص نجاحات تكنولوجية وخدمية مبهرة، وحس بإمكانيته تحقيق معجزات تكنولوجية وإقتصادية جديدة، لو أنه حرر السوق العالمية من الأنظمة والقوانين التقليدية البالية والمشلة. لذلك دفع القطاع الخاص بلوبياته لحوارات إقتصادية جديدة، والتي أثرت كثيرا على علماء الاقتصاد، وقد كان من أبرز من تأثر بأهمية هذه النقاشات، عالم الإقتصاد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للإقتصاد، وعميد كلية العلوم الاقتصادية بجامعة شيكاجو، البروفيسور ملتون فريدمان، مما أدى لبروز المرحلة الثالثة من رأسمالية-3، التي قوت القطاع الخاص، وأضعفت المسئوليات الإقتصادية والإجتماعية الحكومية. وقد دعمت في بداية ثماننيات القرن الماضي، حكومة الرئيس رونالد ريجن، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تشر، النظريات الاقتصادية لرأسمالية-3 ولملتون فريدمان، ليدفع كل منهما لخطة حكومية جديدة، تحرر السوق من أنظمتها وقوانينها المقيدة، مع تخصيص شركات القطاع العام، وإضعاف الاتحادات العمالية، لتقوى الشركات العالمية العملاقة الخاصة، والتي فقدت جنسيتها، ولتقل إمتيازات الطبقة الوسطى، ولتتجمد الرواتب، وتزداد ساعات العمل، وتخفض مخصصات الرعاية الإجتماعية والصحية والتعليمية، مع أرتفاع كلفة الإسكان والمواصلات والغذاء والخدمات، ولتفقد الطبقة الوسطى مدخراتها، وتنخفض نسبة إستهلاكها من بضائع السوق وخدماته، وليؤدي كل ذلك لدورة جديدة من التباطوء الإقتصادي، ولتنتهي بالأزمة الإقتصادية لعام 2008، التي نتج منها تغيرات سياسية وإقتصادية عولمية، من طوفانات الربيع العربي في الشرق الأوسط، وحتى ثورة حزب الشاي في الول ستريت بنيويورك. ويبقى السؤال: ما هي النتائج الإقتصادية أولا، والسياسية ثانيا، لتطبيق الرأسمالية-3 على المجتمع الأمريكي؟

للإجابة على الجزء الأول من السؤال سنتدارس معا مقال لي إليزابيث وايز، نشر بمجلة يو أس توداي، في شهر مايو الماضي تقول فيه: بعد أن تسارعت خطى التنمية الإقتصادية في السليكون فالي بعد الأزمة الإقتصادية لعام 2008، بدأ يتركز الثراء في يد 1% في القمة، بينما إنكمشت الطبقة الوسطى، لتصنف 50% من العائلات ضمنها، بل وفي الوقت الذي ارتفعت، بشكل مذهل، أسعار السكن والمواصلات، لينخفض دخل 99% من المواطنين، إلى مستوى قريب لمستوى دخل سنوات الأزمات الإقتصادية. فمثلا في مدن، كسانتا كلارا، وسان موتيو، وسان فرانسيسكو، والتي هي مراكز مئات الشركات التكنولوجية العملاقة، والتي تضم الفيس بوك، والغوغل، وأبل، برز تباين الثراء بشكل مخيف، مقارنة لما كان عليه الوضع في عام 1989. فقد بين تقرير الأمن الاقتصادي بأنه قد أرتفع متوسط دخل "قمة 1%" بنسبة 36%، بمنطقة السلكون فالي في الفترة بين عام 2009 وحتى عام 2013، أي بمتوسط دخل الفرد منهم 4.2 مليون دولار، أي ليرتفع الدخل 46 مرة، عن باقي 99% من المواطنين. فمثلا، ارتفع في سانتا كلارا دخل " قمة 1%" بنسبة 83%، بمقدار 2.7 مليون دولار، أي أكثر 30 مرة عن باقي 99% من العائلات، بينما ارتفع دخل "قمة 1%" بسان فرانسيسكو 51%، إلى 2.7 مليون دولار، أي بنسبة 43 مرة، أكثر من متوسط دخل باقي 99%. ومع أن تباين الثراء ظاهرة أمريكية عامة، ولكن تطرفها في مركز الإبداع والإختراع، دلالة خطيرة لمنطقة مواردها البشرية مبدعة في مهاراتها التكنولوجية. وبشكل عام، تراوح دخل العائلة المشكلة من ثلاثة أشخاص من الطبقة الوسطى، بين 42 ألف دولار وحتى 125 ألف دولار سنويا، وأنخفض عن ذلك بين الفئة الدنيا، وأرتفع بين الفئة العليا. فمثلا، إنكمشت الطبقة الوسطى بين عام 1989 وحتى عام 2015 من 58% في مدينتي سانت ماتيو وسانت كلارا إلى 48%، ومن 51% إلى 41% في مدينة سان فراسيسكو، بينما لم تحقق الفئة الدنيا أية زيادة في الدخل منذ عام 2008. وبالرغم من أن التطور التكنولوجي في هذه المنطقة، وزيادة أرباح شركاتها بشكل كبير، والذي وفر وظائف أكثر، مع رواتب مرتفعة، ولكن ارتفاع أسعار السكن والمواصلات، أدى لفقر الطبقة الوسطى والدنيا. ولنتساءل: ما سبب هذا التباين الفاحش؟ وما هي نتائجه المستقبلية؟

لقد أدت انتشار ظاهرة الخصخصة في جميع مجالات الحياة، من التصنيع والرعاية الصحية والتعليمية وحتى الإسكان والمواصلات، بل ولتمتد لتشمل إدارة السجون والأمن، بل وحتى بعض خدمات الجيش، بالإضافة للتطورات الهائلة في مجال تكنولوجيات الاتصالات والمواصلات، لبروز شركات عولمة عملاقة، بعد أن زادت أرباحها بشكل مفاجئ، وخاصة حينما حولت مصانعها لدول العالم النامي، لتتخلص من الكلفة العالية، للقوى العاملة الغربية، والتي تصل عادة لثلثي ميزانية هذه الشركات، لتزداد أرباحها بشكل حاد، ولتنمو قوتها السياسية، بشراءها للأعلام واللوبيات البرلمانية والسياسيين ورجال الحكومة وليتمد ذلك حتى لنقاشات القضاء. وقد كان ذلك واضحا في الولايات المتحدة، حينما قرر مجلس القضاء الأعلى بالسماح للقطاع الخاص بالصرف المالي الغير محدود على الانتخابات، لإعتباره ذلك جزءا من الحرية الشخصية. وقد أدى كل ذلك لتقوية القطاع الخاص سياسيا، وليدفع من خلال لوبياته في البرلمانات لوضع تشريعات تحقق لها ربحية عالية، من خلال زيادة ساعات العمل، وخفض أو تجميد الرواتب، مع التخلص من كثير من الحقوق العمالية في العطل والرعاية الصحية والتعليمية وتأمين التعطل والتقاعد، كما دفعت بتشريعات تسهل تهربها من دفع الضرائب، لدرجة أن الموظف قد يدفع 35% من راتبه للضرائب، بينما قد تدفع الشركات العملاقة أقل من 11% من أرباحها، بل لتتهرب أحيانا من دفع الضرائب تماما، بإخفاء أرباح فروعها الخارجية. مما أدى ذلك لزيادة هائلة لأرباح هذه الشركات، وليبرز تدريجيا تباين ثراء فاحش وزيادة نسبة الفئات الفقيرة في المجتمع، وليؤدي لفقدان الثقة برجال السياسة والحكومة والبرلمان والقضاء، ولينتهي لغضب وحقد شعبي عارم، ولينتج من كل ذلك بروز ظواهر غريبة في الانتخابات التمهيدية الأمريكية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، بزيادة عدد المستقلين، بل لتنتهي بفوز دونالد ترامب المستقل أصلا، ليصبح المرشح الجمهوري، وليصبح الإشتراكي المستقل إصلا، برني ساندرز، المنافس الوحيد لهليري كلنتون في الحزب الديمقراطي. ويبقى السؤال: هل فعلا يمكن أن يفوز دونالد ترمب في إنتخابات الرئاسة الأميريكة؟

وللإجابة على ذلك السؤال، سنتدراس معا مقال لوزير عمل أمريكي سابق بحكومة بيل كلنتون، وهو البروفيسور روبرت رايش، أستاذ العلوم الاقتصادية، بجامعة كاليفورنيا ببركلي، وبعنوان، لماذا قد يفوز ترامب؟ يقول فيه: لقد بينت استطلاعات الرأي الأمريكية في شهر مايو الماضي، بأن دونالد ترامب يتقدم على هليري كلنتون في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأمريكية بنسبة 46% إلى 44%. ومع أن هذه الاستطلاعات قد لا تعني الكثير في هذه المرحلة، ولكنها تطرح أسئلة خطيرة. فمنذ أن انتصر ترامب في الانتخابات التمهيدية الرئاسية لتمثيل الحزب الجمهوري، زاد كره الإعلام له بسبب اسلوب تعامله مع المرأة، واستعداده للكذب، مع تصريحاته العنصرية، وسياساته الدفاعية والتجارية والاقتصادية الغريبة. فكيف استطاع هذه الشخصية "الغريبة" أن ينافس هيليري كلنتون؟ فمع تكرار الإعلام الأمريكي بأن ترامب غير محبوب، بتصريحاته الغير متزنة والغير مسئولة، والتي قد تكون سببا لفشله في انتخابات الرئاسة، ولكنني حينما تنقلت في مختلف الولايات الأمريكية اكتشفت الكثير من من يدعمونه، وخاصة بسبب الصفات السيئة التي يصفونه بها. فمثلا أخبرني ريكي اللاتيني، من ولاية تكساس، بأن معظم أصدقائه يدعمون ترامب، لأنه يريد منع المكسيكيين من الدخول الغير الشرعي لأمريكا، لأنهم ينافسونهم على مصادر رزقهم. كما يدعم عضو اتحاد عمال بتسبرغ ، دونالد ترامب، لأنه يعتقد بأنه سيقف بصرامة ضد الشركات التي تسرق وظائف الأمريكيين، لتعطيها للصينين والمسلمين. وهناك تاجر صغير من سنسناتي يدعم ترامب، لأنه ليس سياسي تقليدي، لذلك يعتقد بأنه سيقف بحزم ضد واشنطن. فمع أن الكثير من المحللين السياسيين قللوا من شأن ترامب، لأنهم ينظرون من خلال العدسة التقليدية للسياسة، في الوقت الذي يبدو بأن صعوده متعلق بنوع جديد من البيئة السياسية، والتي يمكن أن نسميها البيئة "المضاد للسياسة". فقد كانت السياسات التقليدية مشغولة بالصراع الأيديولوجي بين اليمين واليسار، في الوقت الذي بدأ يتجه مرشحو الرئاسة نحو الوسط المستقل، لينتقدوا حكومة واشنطون وقيادات الشركات والإعلام والمصرفيين، فهم يعتقدون بأنهم سرقوا الحكومة والكونجرس والقضاء والإعلام لصالحهم، بل ولم يبقى حتى الوسط، بل أستبدل بالعداء والغضب والريبة والشك ضد جميع مؤسسات الدولة. فهناك معاناة يعيشونها 99% من الشعب، ضد "1%" الذين هم في قمة الثراء، ليدفع المواطنين للانتقام، لاختيار من هو الأقوى، الذي يمكنه أن يضرب هولاء (%1) على قفاهم، بدون أدب ولا احترام ولا إتيكيت. ولم يعد من المهم إن كان معظم الأمريكيون لا يحبون ترامب، أو إنه سيئ، بل المهم إنه يمثلهم، فهو ليس سياسي تقليدي، يكذب عليهم بكلمات منمقة، وليصبح كل سياسي من داخل المؤسسة مكروه، ولا يثق به أحد، وقد تكون هذه معضلة فشل كلنتون. ففي "عصر سياسة الضد" للمؤسساتية الأمريكية، لم يعد أحد يثق بالسياسيين المنمقين، والذين يتحدثون بالمنطق المؤسساتي الأمريكي التقليدي الكاذب، بل يفضلون مرشحهم شخصية أصلية، تتصرف بسليقته، وتخطب بدون كذب منمق، وقد عبر عن ذلك مدير تنفيذي من سولت سيتي، حينما قال: "لا أتفق مع الكثير من ما يقوله ترامب، ولكني أدعمه لأنه شخص حقيقي، ليس صورة كاذبة لسياسي آخر يحبه الناس، فهو يقول ما يعتقده، لذلك تعرف موقفه الحقيقي، بدون كذب ولا نفاق. فهو صورة حقيقة لشخصه، وليس صورة كاذبة لسياسي منمق كذاب." وفي السياسات التقليدية للأحزاب السياسية، تتوسط الاتحادات العمالية، والمجموعات التجارية، وشركات الاعلام، بين المرشح والمواطنين، لتجمل وتدعم المرشح، وتنظم وتوجه عملية التصويت، ولكن في "عصر المضاد للسياسة" التقليدية، فكل من لدية رغبة قوية وإصرار ومال، كدونالد ترامب، يستطيع أن يقوم بكل ذلك لوحده، ليعلن عن ترشيحه، ويتواصل مع المواطنين مباشرة، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، ويجمع التبرعات، بل ويحصل على الإعلام المجاني، لمقولاته المثيرة والمسيئة والغير تقليدية والغير مقبولة، بل والخاطئة سياسيا. كما لم يعد الدعم المؤسساتي الحزبي مهم، لذلك نجح ترامب في السيطرة الكاملة على "الفن المضاد للسياسة"، في وقت كره الشعب الأمريكي كل ما يتعلق بالسياسات التقليدية المخادعة، التي لم تحقق إلا تباين الثراء الفاحش، حينما يملك "قمة 1%" من الأمريكيين 40% من الثراء، بل 10% منهم 82% من هذا الثراء، بينما يملك باقي ثلثي الشعب الأمريكي فقط 3% من ثراء بلاده، بل العجب بأن عائلة أمريكية واحده تملك، ما يملكه مائة مليون أمريكي، أي ثلث باقي الشعب. وبذلك، قلل الكثيرون من خبراء السياسات التقليدية من شأن ترامب، بل انصدموا من مدى شعبيته، "لتصبح بذلك ديماغوجيته سبب لفوز أخطر مرشح رئاسي في تاريخ الولايات المتحدة."

ولنتذكر عزيزي القارئ بأن هذا التباين من الثراء الفاحش ليس ظاهرة أمريكية، ولا غربية فقط، بل هي ظاهرة عالمية، وإنتشرت في منطقة الشرق الأوسط. فمثلا حينما إزداد الناتج المحلي الإجمالي في العقد الماضي، في الكثير من الدول العربية، كتونس ومصر وليبيا وسوريا، وفي نفس الوقت تمركز الثراء في يد القلة، بينما زاد العوز والفقر والمرض والجهل بين باقي 99%، لتبدأ ثورات الخريف العربي المأساوية، وليزداد شباب المنطقة غضبا وحقدا وتطرفا، بل ولينضم بعضهم انتقاما، للتنظيمات المتطرفة والفئات المتوحشة. ويبقى التحدي الشرق أوسطي الخروج من هذه الحلقة من سلبيات سياسات واقتصاديات العولمة، وخاصة مع التطورات القادمة في العلوم التكنولوجية، بتطور الذكاء الصناعي للإنسان الآلي، حيث يمكن أن يدرب الإنسان الآلي المستقبلي كتدريب البشر، والذي قد يتمكن من أن يسرق 40% من وظائف الإنسان المستقبلية. وهنا تبدأ تحديات التعليم المستقبلية في خلق إنسان المستقبل، الذي لن يستطيع ذكاء الإنسان الآلي أن ينافسه في العمل، وهنا تكمن أيضا تحديات تطوير الرأسمالية- 4، لإيجاد صغية إقتصادية متوازنة لرأسمالية عولمة ترجع للجنس البشري أخلاقياته وروحانياته وكرامته وسعادته ورخائه وإزدهاره. ولنا لقاء.

*سفير مملكة البحرين في اليابان