الضرب الصاعق بين ضروب الإفلاس السياسي هو إفلاس الشيوعيين الذين انحرفوا عن النهج اللينيني الستاليني وهللوا بفرح غامر لانحراف خروشتشوف بالرغم من أنه لم يكن هناك ما يبرر أي فرح سوى إذا ما كان انكسار الشيوعية فرحاً لهؤلاء الخونة بعد أن كانت قد حققت انتصارات لا عهد للبشرية بمثلها ؛ بدأت بانتقال الاتحاد السوفياتي القاري، سدس العالم، من دولة متخلفة، أداة الإنتاج الرئيسية فيها المحراث الخشبي تجره الحيوانات، إلى دولة صناعية كبرى لا يتقدمها إلا الولايات المتحدة الأميركية خلال خمس عشرة سنة فقط (1923 1938)، دولة تسحق النازية والفاشية في كل القارة الأوروبية التي كانت قد حطمت أكبر امبراطوريتين استعماريتين في التاريخ، بريطانيا وفرنسا، دولة كان لها السبق العجيب في إعادة إعمار ما هدمته الحرب خلال خمس سنوات فقط وكان الأوسع مقارنة بكل الدول الأوروبية وبمختلف الحروب في التاريخ وإعادة الاتحاد السوفياتي إلى أفضل مما كان عليه قبل الحرب، دولة همّت بنجاح ملحوظ في تحقيق الخطة الخمسية الخامسة 1951 1956 التي كانت ستجعل من الاتحاد السوفياتي جنة الله على الأرض وتحمل الاتحاد السوفياتي إلى عتبة الشيوعية مؤكدة بذلك الإنتصار العالمي الحاسم والنهائي لمشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية . بالطبع كل تلك النجاحات العملاقة أوجعت البورجوازية الوضيعة أشد مما أوجعت دهاقنة الرأسمالية، تشيرتشل وروزفلت، فكان أن استقبل شيوعيو البورجوازية الوضيعة خروشتشوف المرتد بفرح غامر.

هؤلاء "الشيوعيون" الذين عبروا عن فرحهم الغامر بقطع مسار الثورة الاشتراكية في العام 1953 على يد خروشتشوف المتعاون مع العسكر يصعب وصفهم بالمفلسين سياسياً طالما أنهم في الحقيقة كمجندين لدى البورجوازية الوضيعة، يعملون ضد الاشتراكية ويخونون الطبقة العاملة حيث هم ما زالوا يخونونها . لم يتخلوا عن خيانتهم حتى بعد انهيار مشروع لينين والاتحاد السوفياتي اللذين شكلا الشرعية الوحيدة المؤسسة لمختلف الأحزاب الشيوعية في العالم، ما زالوا يجدون في أنفسهم تحت راية الشيوعية خداماً خلصاء لمشروعات البورجوازية الوضيعة المدمرة لمستقبل البشرية . هؤلاء الخونة يسترون خيانتهم تحت راية الشيوعية بسرابيل زاهية الألوان الخادعة من مثل الديموقراطية والتعددية والعدالة الإجتماعية ؛ يؤسسون لمشروعية أخرى مختلفة بل ومعارضة للمشروعية الشيوعية الماركسية وهو ما يكفي لدمغهم بالخيانة . كما أن زيف مشروعيتهم الجديدة يؤكد إفلاسهم الفاضح .

كيلا يظل ادعاؤنا بإفلاس الأحزاب الشيوعية إدعاءً عارضاً نعود إلى ما يمكن وصفه بدستور الحزب الشيوعي الذي يؤسس لقيام الحزب الشيوعي، أي حزب شيوعي، وهو "بيان الحزب الشيوعي" (Manifesto of the Communist Party) وقد صاغه كارل ماركس وفردريك إنجلز في نهاية العام 1847. يقول البيان أن النظام الرأسمالي العالمي يتنامى من خلال تحويل غالبية القادرين على العمل إلى بروليتاريا ولا يراكم الرأسماليون المزيد من النقود، الهدف الرئيس للنظام الرأسمالي، إلا من خلال تزايد أعداد البروليتاريا . لكن من خلال تنامي التناقض بين قوى الانتاج المتعاظمة دوماً

وعلاقات الإنتاج الثابتة لا بد أن تكون هناك ثورة إشتراكية تقودها طلائع البروليتاريا المنضوية في حزب شيوعي في مركز النظام الرأسمالي الأكثر نمواً وكان ذلك في غرب أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر لدى صدور البيان الشيوعي . تلك هي وقائع وحقائق تطور النظام الرأسمالي التي استوجبت حصراً قيام الحزب الشيوعي .

كومونة باريس في العام 1871 برهنت على أن طبقة البروليتاريا حتى في قلب النظام الرأسمالي العالمي لم تكن بالمستوى الكافي الذي يؤهلها لانجاز ثورتها الاشتراكية العالمية . ولذلك قعد ماركس بعد أن حل الأممية الأولى في العام 1973 حتى رحيله في العام 1883 ينتظر تطور طبقة البروليتاريا حتى النضوج . في العام 1889 لاحظ رفيق ماركس ووريثه فردريك إنجلز أن البروليتاريا في مركز النظام الرأسمالي، غرب أوروبا، قد أخذت تشكل قوى ذات شأن وقامت هناك العديد من الأحزاب الإشتراكية الديوقراطية القوية وخاصة في فرنسا وألمانيا، فدعا إلى تشكيل الأممية الثانية من أجل أن تتعاون هذه الأحزاب للقيام بثورتها الاشتراكية وإنجازها . في العام 1907 وأثناء اجتماعها العام في شتوتغارت في ألمانيا وجدت الأممية الثانية أن مراكز الرأسمالية المتعددة في أوروبا الغربية تدخل في حرب دولية كلما احتاجت تلك المراكز بفعل التنمية غير المتكافئة اعادة تقسيم الأسواق . وبدا واضحاً بصورة تامة أن تلك الحروب الدولية إنما تقوم لحلحلة التناقض المأزوم في البلدان الرأسمالية المتقدمة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج . ولذلك اتخذت تلك الأممية أشهر قراراتها على الإطلاق، قراراً يقضي بقيام البروليتاريا في كل دولة تدخل الحرب الدولية بانتفاضة تطيح بالسلطة وتستعيد السلم في المجتمع . ذات الأممية نسخت هذا القرار في اجتماعها العام في بازل في سويسرا 1912 وسمحت لأحزابها الإشتراكية الديموقراطية المشاركة في الحرب دفاعاً عن "الوطن" . البلاشفة بقيادة لينين انسحبوا نهائياً من الأممية الثانية وخلفوا توأمهم المناشفة وراءهم بسبب ذلك القرار الرجعي الفاضح الذي سمح للإشتراكيين بأن يبذلوا دماءهم رخيصة وأن يتذابح العمال دفاعاً عن مصالح الرأسماليين . وهكذا انتفض البلاشفة في أكتوبر 1917 واستولوا على السلطة وأزاحوا حكومة الاشتراكيين الثوريين التي تنكرت لتعهداتها في الثورة البورجوازية في شباط فبراير 1917 وخاصة تعهدها بالإنسحاب من الحرب فزادت مشاركتها في الحرب بدل الإنسحاب .

البورجوازية بمختلف تلاوينها رفضت استيلاء البلاشفة على السلطة وأعلنت الحرب عليهم فكان أن قضى البلاشفة بمساعدة الفلاحين الفقراء على البورجوازية ومعها كل تلاوين الرجعية في الحرب الأهلية (مارس آذار 1918 مارس آذار 1919)، وبذلك فقد البلاشفة كل فرصة لتطوير الثورة البورجوازية كما أوصت بذلك الأممية الثانية في مؤتمرها في بازل 1912 . وبالتالي لم يكن أمام البلاشفة غير تحويل إنتفاضة أكتوبر إلى ثورة اشتراكية، فأعلن لينين في إفتتاح المؤتمر التأسيسي للأممية الشيوعية في السادس من مارس آذار 1919 أن البروليتاريا الروسية برهنت على أنها متقدمة على البروليتاريا في إنجلترا وفي ألمانيا وعليه فإن مصائر العالم ستقررها البروليتاريا الروسية عبر ثورتها الشيوعية وأن الثورة الشيوعية غدت مضمونة النجاح في العالم . كان ماركس قد استشرف الثورة الإشتراكية في غرب أوروبا لكن لينين وجدها في الواقع في روسيا . الأممية الثانية بقيادة كاوتسكي وبليخانوف هاجمت لينين ووصفته بالمغامر بادعاء أن روسيا متخلفة والثورة الإشتراكية لا تكون إلا في البلدان الرأسمالية المتقدمة لكن بعد أن استطاعت البروليتاريا الروسية يساعدها فقراء الفلاحين من سحق كل أنساق أعداء الإشتراكية في روسيا وخارج روسيا

وأولهم البورجوازية الروسية الدينامية انعكس ذلك في انحلال الأممية الثانية نهائياً في العام 1922 الأمر الذي لا يعني سوى الإعتراف بالثورة الاشتراكية البلشفية، الإعتراف الذي لم يُعلن .

تبعاً لهذه الوقائع التاريخية تبرز الحقيقة التي لا مراء فيها وهي أن الأحزاب الشيوعية في كل أصقاع المعمورة تشكلت استجابة لنداء الأممية الشيوعية التي أقامها لينين في العام 1919 لتساهم في مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية . تلك هي الشرعية الوحيدة التي قامت عليها مختلف الأحزاب الشيوعية، وتلك هي الوظيفة الوحيدة للأحزاب الشيوعية وبغيرها لا تعود شيوعية.

اليوم بعد تفكك الإتحاد السوفياتي وإنهيار مشروع لينين كما ترى ذلك فلول أحزاب الأممية الثالثة تفقد هذه الأحزاب كل شرعية لها . وبدل أن تعترف بفقدان شرعيتها وتطوي أعلامها وتعود إلى بيوتها خاسرة مفلسة، راحت تبتدع شرعيات أخرى أقل ما يقال فيها هو أنها زائفة وبورجوازية نقيضة للشيوعية من مثل التعددية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية . لن يجد هؤلاء الخونة مبرراً لخيانتهم سوى السباب على الاتحاد السوفياتي وعلى ستالين ودكتاتوريته الفردية وولوغه بدماء السوفياتيين وأن النظام السوفياتي لم يكن اشتراكياً بل نظام طغيان ورأسمالية الدولة . للمرء حقيقة أن يعجب من أن هؤلاء الخونة قد انقلبوا بين عشية وضحاها من جنود يدافعون بعزم عن الاشتراكية السوفياتية إلى كلاب مسعورة تنهش بلحمها!! هل كان الاتحاد السوفياتي سينتصر على ألمانيا النازية بعد أن حطمت أكبر امبراطوريتين عبر التاريخ، بريطانيا وفرنسا، لو لم يكن اشتراكياً؟ المعاهد الغربية تعترف بذلك وتؤكد أن الإتحاد السوفياتي ما كان لينتصر على النازية إلا لأن نظامه اشتراكي وخونة الشيوعية ينكرون ذلك . تشيرتشل يكتب إلى ستالين في ابريل نيسان 1943 .. "أنتم العمالقة ونحن لسنا قدّكم"، بل أكثر من ذلك فتشيرتشل يعترف والدموع تبلل وجنتيه أنه يصلي للرب كل صباح كي يحفظ ستالين فهو الوحيد القادر على صيانة السلم في العالم . وروزفلت يكتب في مذكرته أن ستالين وليس تشيرتشل هو من سيبني عالماً يسودة السلام والديموقراطية . زعماء تاريخيون يقولون هذا ونكرات مفلسون يقولون العكس تماماً، نكرات مفلسون يعتمدون على أكاذيب خروشتشوف في تقريره الشخصي 1956 وخروشتشوف نفسه عاد يكذب نفسه ويعلن في افتتاح مؤتمر الحزب 1959 .. "بنى حزبنا بقيادة ستالين دولة اشنراكية عظمى نفاخر بها " .

الأحزاب الشيوعية وخاصة تلك التي لم تبدل رايتها تتبنى سياسات بورجوازية خادعة ليس بين حروفها حرف واحد ذو دلالة شيوعية . شعار التعددية، وهو الشعار العام الذي تتبناه الأحزاب الشيوعية المفلسة والتي لم تعد شيوعية، لا يعني بالتحليل الأخير سوى مساكنة البروليتاريا مع الرأسماليين والقبول بالاستغلال بالتالي . العدالة الاجتماعية تعني تماماً إلغاء دور السوق في توزيع عوائد الإنتاج . ثم ما هي طبيعة تلك السلطة القادرة على تجاهل دور السوق في توزيع العوائد؟ عبرت في التاريخ سلطات إلهية وفاشية متعددة إلا أن إحداها لم تلغِ السوق لصالح الفقراء والمساكين . دولة دكتاتورية البروليتاريا كانت الدولة الوحيدة التي ألغت السوق كما ألغت الأجور واستبدلتها بالمعاشات لجميع أفراد المجتمع .

ليس ما يكشف إفلاس فلول أحزاب الأممية الشيوعية التي لم تعد شيوعية أكثر من شعار "الديموقراطية" التي غدت تلهج به هذه الأحزاب صبح مساء . هي لا تلهج مثل هذا اللهج إلا لتؤكد

تخليها عن المبدأ الماركسي الأساسي ألا وهو دكتاتورية البروليتاريا الذي اعتبره ماركس المبدأ الأولي للإشتراكية . كان الشيوعيون يطالبون سابقاً بالديموقراطية لكن ذلك كان لأمر مختلف . كانت الديموقراطية تعني لهم الحد من العنف الذي تمارسه الدولة الرأسمالية على العمال والشيوعيين المناضلين ضد استغلال العمال . أما بعد أن تخلى "الشيوعيون" عن قضية العمال الرئيسة، قضية الاشتراكية ودولة العمال، ليتبنوا قضايا "وطنية" تُعنى بصورة رئيسية بمصالح الطبقة البورجوازية الوضيعة من مثل زيادة وتحسين إنتاج الخدمات الذي لا يتم إلا على حساب العمال فلا يعود للديموقراطية عندئذٍ أي معنى . ولماذا مواجهة الشيوعيين بالعنف طالما هم أنفسهم إنقلبوا إلى وطنيين أعداء للبروليتاريا يطالبون مبدئياً بتطوير وتوسيع إنتاج الخدمات التي هي قصراً من إنتاج البورجوازية الوضيعة وتمس الخبز اليومي للبروليتاريا .

ليس إلا من باب التستر على إفلاسهم السياسي يتجاهل شيوعيو البورجوازية الوضيعة ماهية الديموقراطية . فالديموقراطية هي قصراً البنية السياسية التي تفرزها علاقات الإنتاج الثابتة المستقرة القادرة على إعالة المجتمع . تتوظف هذ البنية السياسية في حماية علاقات الإنتاج المؤسسة لها وتحسينها لصالح مالكي أدوات الإنتاج . كان لكل نظام اجتماعي ديموقراطيته الخاصة به، فديموقراطية المجتمع العبودي في أثينا غيرها عن تلك في المجتمع الإقطاعي والأخرى في المجتمع الرأسمالي والأخيرة في المجتمع الاشتراكي .

الإشتراكية العلمية التي قال بها ماركس تتمثل بدولة دكتاتورية البروليتاريا تعمل على إلغاء كل علاقات الإنتاج ليصبح العمل طوعياً فلا تكون هناك ديموقراطية ولا أية بنية سياسية على الإطلاق.

في النصف الثاني من القرن العشرين انهارت العوالم الثلاث التي ورثها العالم عن الحرب العالمية وظهور الاتحاد السوفياتي القوة الأعظم في العالم . النتيجة الأهم بين نتائج الحرب، بجانب ثورة التحرر الوطني العالمية، كانت استنزاف طبقة البروليتاريا السوفياتية لصالح طبقة البورجوازية الوضيعة السوفياتية التي نجحت بمساعدة جوهرية من خروشتشوف وعصابته في قيادة الحزب في تفكيك المشروع اللينيني ودولة دكتاتورية البروليتاريا . ذلك فقط ما أدى إلى إنهيار العوالم الثلاث&

أول ما ينجم عن هذه الحقيقة التاريخية، انهيار العوالم الثلاث، هو أن العالم بمختلف دولة حتى تلك التي تنتج أضعاف ما تحتاجه، كما في شرق آسيا، لا تمتلك نظاماً وطنياً للإنتاج ثابتاً ومستقراً وهي لذلك لا تمتلك بنية سياسية ثابتة . البورجوازية الوضيعة تنتج حصراً الخدمات وهي الإنتاج السائد اليوم في العالم وفي الدول الرأسمالية سابقاً بصورة خاصة والخدمات بطبيعتها لا تعيل المجتمع . يجد المرء فيها أحزاباً ذات أسماء كبيرة طنانة ورنانة لكنها كالطبل يكبر وهو خال أجوف كالحزب الشيوعي الصيني أو الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة يتنافسان على تمثيل الطبقة الوسطى أو الأحزاب اليسارية التي برنامجها الوحيد هو العداء للشيوعية . دول العالم تفتقد اليوم أية بنى إقتصادية وسياسية ذان معنى وذات هدف معلوم سوى الخلط والإرتباك (Confusion) وهو المحيط المناسب لتعويم البورجوازية الوضيعة التي كان ماركس قد وصفها في البيان الشيوعي بالرجعية المطلقة . ذلك هو الإفلاس السياسي الذي ما بعده إفلاس .

&

(يتبع)