&كثيرون هم الذين يؤمنون أن المتدينين الذين يحافظون على تلاوة صلواتهم المعلومة في معابدهم سيُجازون بالإنتقال إلى الحياة الأخرى بعد وفاتهم. لكن كيف يمكن لقوم الإنتقال إلى الحياة الأخرى طالما أنهم يرتلون تراتيل غريبة لا تعترف بها آلهتهم بل وتكفر بها.

كذلك هم الساسة المفلسون، يسوّدون صفحات الجرائد والمجلدات بأفكار فانتازية لا علاقة لها بالواقع ولا تحملهم للوصول إلى فردوسهم المفقود.

القوميون وكل المتأثرين بما يوصف ب "الفكر" القومي صدعوا رؤوسنا بصراخهم يؤكدون أن كل التخلف العربي إنما يعود لاتفاقية سايكوس بيكو المعقودة بين الدولتين الاستعماريتين، بريطانيا وفرنسا، في العام 1916 لاقتسام تركة الرجل المريض (السلطنة العثمانية) في الهلال الخصيب مناطق نفوذ للدولتين. فماذا كانت النتائج الأخيرة لاتفاقية سايكس بيكو التي يعلق عليها القوميون العرب كل خيباتهم وتخلفهم الموروث منذ عشرة قرون.

في العام 947 م استولى البويهيون الفرس المتأسلمون على بغداد وجعلوا من الخليفة العباسي، المطيع لله أبو القاسم (946 974) ليس أكثر من مفتي يقضي بالمسائل الدينية والأحوال الشخصية، أما ما تبقى من أمور الدنيا فهي من ولاية سلاطين البويهيين. منذ العام 947 وحتى العام 1917 أي زهاء عشرة قرون خضع العرب خضوعاً تاماً وذليلاً لحكم أعراق غير عربية متخلفة حضارياً من فرس ومماليك وأتراك ولم يحكم العرب أنفسهم إلا في العام 1916 عندما أطلق الحسين بن علي الرصاصة الأولى في الثورة العربية الكبرى ضد الخلافة العثمانية التي استعبدت العرب لأربعة قرون مظلمة فكانت مملكة الحجاز الهاشمية أول دولة عربية مستقلة بتأييد من الدول الإمبريالية بريطانيا وفرنسا صاحبتي اتفاقية سايكس بيكو.

كان زعماء البورجوازية الشامية قد عقدوا مؤتمراً في بصرى الشام 1916 بعد أن بات جليّاً أن السلطنة العثمانية في سبيلها إلى الانحلال جرّاء المواجهة الحربية غير المتكافئة مع جيوش أقوى دولتين استعماريتين، بريطانيا وفرنسا، وقرر هؤلاء الزعماء الشوام المناداة ب "المملكة العربية المتحدة" وشريف مكة الحسين بن علي ملكها. وتجدر الملاحظة هنا أن المملكة العربية المتحدة الموضوع تحددت جغرافياً بمدى انتشار (Catchment) الصناعات الحرفية الشامية ولذلك لم تضم مصر والأقطار العربية في شمال أفريقيا.

ما يجهله أو يتجاهله القومجيون العرب هو أن البورجوازية الشامية لم تكن على قدر المهمة التاريخية التي انتدبت نفسها لها وهي تحقيق الثورة العربية الكبرى وبناء الدولة الوطنية ؛ بل إن حركات التحرر الوطني أصلاً، والتي كان ظهورها مرافقاً لدخول العالم الرأسمالي في مرحلة الإمبريالية، لم يكن لها نصيب من النجاح قبل أن يكون هناك ثورة اشتراكية عالمية في قلب العالم الرأسمالي تقوّض أركانه بمثلما كانت الثورة البلشفية في العام 1917 التي سرعان ما برزت في الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في الأرض. حركات التحرر الوطني في الهند والصين لم تحقق أية نجاحات بالرغم من أن البورجوازية الوطنية فيهما كانت أكثر تطوراً من البورجوازية الشامية إلا بعد أن وجهت الاشتراكية السوفياتية ضربات ساحقة لمعسكر الإمبريالية في الحرب العظمى وهو ما انعكس في انفجار ثورة التحرر الوطني واستقلال كافة الدول الطرفية في العالم 1946 1972.&

الجيش الذي شكله الشريف حسين في مكة وأعلن الثورة ضد السلطنة العثمانية في 9 حزيران يونيوه 1916 بتأييد من بريطانيا كان من بضع مئات من البدو يركبون الجمال ويتسلحون ببنادق قديمة صدئة ؛ وما إن وصل هذا الجيش بلدة (تبوك) شمال الحجاز حتى انقطع هناك بلا ماء ولا غذاء وبلا مال دون أن تزوده البورجوازية الشامية بغير الشعارات الطنانة الرنانة. برك جيش العروبة المتخلف في تبوك ولم ينقذه سوى ضابط المخابرات الانجليزية الملقب بلورنس العرب (Thomas Edward Lawrence) الذي جاءه بالذهب والسلاح وبعث فيه الحياة من جديد. تهتكت البورجوازية الصغيرة الشامية وتعاون معظم قادة الثورة مع الاستعمار الجديد من أمثال نوري السعيد وجعفر العسكري وقد خذلوا الشريف حسين حتى أمسى مشروع مؤتمر بصرى الشام النهضوي مجرد ذكرى باهتة.

ليس إلا أحمق من يعهد إلى الإستعمار ليحقق له الاستقلال الوطني. كان الاستعماريون كرماء مع العرب لكن ليس لدرجة تحقيق وعودهم للشريف حسين والاعتراف بمملكة عربية متحدة مستقلة في شرق المتوسط كما طالب مؤتمر بصرى الشام. رفض الشريف إتفاقية سايكس بيكو ولم يهادن الاستعمار كما هادنه أولاده وعامة البورجوازية الشامية فعاقبة الإنجليز بأن دعموا سواه في الاستيلاء على مملكته في الحجاز ولم يكتفوا بذلك بل اعتقلوه ونفوه إلى قبرص إلى أن توفي. مقابل ذلك ولّوا ابنه فيصل ملكاً على سوريا ثم نقلوه إلى العراق وولوا ابنه عبدالله أميراً ثم ملكاً على شرق الأردن.

كان ممثل بريطانيا مارك سايكس وممثل فرنسا فرانسوا بيكو قد إئتمرا في العام 1916 واتفقا على تقسيم الهلال الخصيب إلى أربع دول عربية؛ فكان لأول مرة في التاريخ تقوم دول ذات صبغة قومية عربية على اعتبار أن الإمبراطوريتين الأموية والعباسية لم تكن دولاً قومية وأن شعوب الهلال الخصيب كانت قد خضعت خضوعاً مهيناً لأقوام غريبة متخلفة لألف عام دون إنقطاع (947 1917) ثم ما لبثت هذه الدول القومية أن استقلت بعد ثلاثة عقود فقط من خضوعها للاستعمار الأنجلو فرنسي.&

ما يثير الحنق والغضب الشديد في آن هو أن الإنتلجنسيا العربية لا تنفك تشكو مر الشكوى من الاستعمار الأنجلو فرنسي ألذي أقام لها دولاً قومية لأول مرة في التاريخ وذات مؤسسات دستورية خلال ثلاثة عقود فقط ولم تشكُ قط من عبودية الإحتلال الفارسي والمملوكي والتركي التي استمرت لألف عام وتسببت بكل هذا التخلف الذي ترسف فيه الشعوب العربية اليوم. ليس أدل على إفلاس الساسة والإنتلجنسيا العرب من تعليق كل ملابسهم القذرة على مشجب اتفاقية سايكوس بيكو والاستعمار الغربي بعض المحللين يعزون ذلك إلى العصبة الدينية التي لم يبرأ منها حتى القوميون فالفرس والمماليك والأتراك كانوا مسلمين وليسوا نصارى كالإنجليز والفرنسيين فحتى صبيان البعث صدعوا رؤوسنت وهم يشدون.. هاتِ صلاح الدين ثانية فينا! مع أن صلاح الدين لم يتكلم العربية. الاستعمار الغربي نقل عرب السلطنة العثمانية من عصر الإنتاج الأسيوي المتخلف قروناً عديدة إلى عصر الإنتاج الرأسمالي الحديث وفي هذا نقلة حضارية نوعية لا يجوز القفز عنها. لم يكن لعرب الإمبرلطوريات القديمة وطن يعرفونه وينتسبون إلية فأوجد لهم الإستعمار الغربي وطناً قومياً يفتدونه بأرواحهم. أوجد لهم علماً ودستوراً ومجلس أمة لم يكن لها ذكر قبلئذٍ، فوالدي لم يولد أردنياً بل عثمانياً لأبوين عثمانيين كما ظل يقول قانون الجنسية حتى وقت قريب. مفردة "القومية" لم تكن موجودة في القواميس العربية قبل احتكاك العرب بالاستعمار الغربي في نهاية القرن التاسع عشر. الاستعمار الإنجليزي في العراق والفرنسي في سوريا لم يقتلا قتيلاً واحداً مقابل.&

تعرفت البشرية على النزوع القومي كمعامل في بوتقة الإنصهار الرأسمالي وانسحب ذلك على حركات التحرر الوطني من الإمبريالية الرأسمالية بقيادة البورجوازية الدينامية التي كان لديها نزوع لاقامة دولتها المستقلة الرأسمالية. من هنا يمكن القطع بأن النزوع القومي إنما هو ظاهرة مرافقة للتطور الرأسمالي.

المسألة الحدية في موضوع الإفلاس السياسي هي انهيار النظام الرأسمالي وقد تحقق مع اكتمال ثورة التحرر الوطني 1946 1972 التي انطلقت تدفعها قوة الاتحاد السوفياتي الجبارة في نهاية الحرب العظمى. فكان أن حصلت سائر الدول الطرفية المستعمرة والتابعة على استقلالها ولم تعد مكباً لفائض الانتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية. التظام الرأسمالي لا يحتفظ بحيويته طبعاً ما لم يصرف فائض الإنتاج المتحقق فيه بالضرورة إلى الخارج ؛ إنه مثل السيارة حيث تتوقف تماماً عن الحركة حالما ينسد عادمها فلا تعود تخرج مخلفات الإحتراق من المحرك. ما يسترعي الإنتباه الشديد في هذا السياق هو أن الإفلاس السياسي يحول دون اعتراف القوميين بانهيار الرأسمالية الإمبريالية إثر استقلال كافة المستعمرات والدول التابعة. الأصل في دينامية النظام الرأسمالي هو تصدير فائض الإنتاج الناجم عن فائض القيمة إلى خارج الحدود، إلى المستعمرات والبلدان التابعة. استقلال هذه البلدان يعني أنها لم تعد موئلاً أو مكباً لفائض الإنتاج وذلك يشكل تماماً انسداد عادم محرك النظام الرأسمالي. تلك هي الحقيقة الجلية التي رآها ستالين والمؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي في وقت مبكر في العام 1952 وقد اتخذ ذلك المؤتمر قراراً يقول أن النظام الرأسمالي الإمبريالي سينتهي في وقت قريب.

ليس ثمة من شك في أن أنهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي في سبعينيات القرن الماضي قد ترك القوميين والمتعاملين مع ما يسمى بالفكر القومي في إفلاس سياسي فاضح فأخذوا يرتلون في معابدهم صلوات لآلهة لم يعد لها وجود في القرن العشرين وما بعد. إنحلال النظام الرأسمالي من جهة، والثورة الاشتراكية العالمية التي ما زالت جذورها في الأرض من جهة أخرى، تنفيان نفياً قاطعاً وجود الدولة القومية المستقلة تحت مختلف الظروف.

(يتبع)