&سليم نصار
قبل أن أنضم إلى الصحافيين الذين كانوا ينتظرون فتح باب قاعة الجمعية العامة في مقر الأمم المتحدة، رأيت وزير الدفاع الهندي كريشنا مينون يتمشى وحيداً وقد تأبط عصاه الغليظة.
وبما أنني قرأت الكثير عن خطب الوزير مينون، المرشح الدائم لخلافة أنديرا غاندي في رئاسة «حزب المؤتمر»، لذلك استغربتُ إهمال الإعلاميين حضوره. وتبين لي بعد الاستيضاح، أن سمعة هذا الوزير مع الإعلاميين لم تكن ودّية، بدليل أنه كثيراً ما كان يستخدم عصاه لإبعادهم عن فضائه المغلق.
ورغم أسلوبه الفج في معاملة الإعلاميين، فقد مشيتُ نحوه، لأقطع عليه مشوار المراوحة الذي كان يمارسه بارتياح أمام فسحة المقهى الداخلي. وفوجئت برد فعله وهو يمتشق عصاه كأنها سيف في يمينه، وينهرني بالابتعاد عنه، وإلّا عليّ أن أستعد لتلقّي ضربات موجعة. ثم سألني بلهجة اعتراض: من أنت، وماذا تريد؟
أجبته على الفور: أنا من لبنان. وقد جئتك بتحية خالصة من صديق الهند كلوفيس مقصود. ولما سمع اسم كلوفيس، تبدّلت ملامحه وانفرجت أساريره، وراح يعتذر عما بدر منه. ثم دعاني إلى الجلوس معه في المقهى، للاستماع إلى أخبار صديقه كلوفيس الذي تعتبره الهند واحداً من أبنائها.
ولما انصرف الوزير الهندي، انهالت عليّ أسئلة الزملاء ممن توقّعوا عكس ما حصل من سياسي لا يتسع صدره لمحترفي البحث عن المتاعب. وطالبوا بإلحاح بأن أزوّدهم كلمة السر التي دجّنتُ بواسطتها العازب الغاضب كريشنا مينون، فقلت لهم: «كلوفيس مقصود».
أخرجت هذه الواقعة من خزانة الذكريات بعدما أبلغني الصديق المشترك المهندس جورج زاخم، بأن كلوفيس تعرّض لنزيف دموي في الدماغ، وأن حاله الصحية تدعو إلى القلق.
ويقود حديث الذكريات إلى أول مهمة ديبلوماسية دشّن من خلالها كلوفيس مرحلة خصبة من حياته، حين أمضى خمس سنوات في نيودلهي مندوباً لجامعة الدول العربية (1961- 1966).
وتشاء الصدف أن يكون الشاعر عمر أبو ريشة سفيراً لسورية في الهند، الأمر الذي سهّل ظروف العمل أمام الشاب الآتي من لبنان، والمعجب بتجربة أكبر دولة ديموقراطية في كل آسيا. وبسبب صداقة أبو ريشة مع رئيس الوزراء جواهر لال نهرو، دلف كلوفيس إلى دهاليز المنظمات المدنية والمؤسسات الرسمية بسرعة لم يكن يتوقعها.
ولما زرتُ نيودلهي، والتقيتُ عناصر من «نادي الصحافة»، أخبرني صاحب مجلة «شنكر» - أشهر مجلة كاريكاتور في البلاد - بأن كلوفيس مقصود كان حاضراً في فضاء الهند قبل أن يدخله مرة ثانية. وكان بهذا الكلام يشير الى المرونة الديبلوماسية التي يتحلى بها مندوب الجامعة الجديد، وإلى سهولة اندماجه في مجتمع معقّد قادته حركة المهاتما غاندي إلى الاستقلال والحرية بعد استعمار قاسٍ وطويل.
الانبهار السياسي الذي عبّر عنه كلوفيس مقصود في كتبه ومقالاته حول «معنى عدم الانحياز»، كان نتيجة قناعة راسخة بأن نشوء قوة عالمية ثالثة يمكن أن يضمن التوازن ويحقق العدالة لشعوب العالم الثالث.
وسمعتُ كلوفيس يتحدث عن تأثُّره بالإخراج السياسي الذي طلع به الزعيم السوفياتي خروتشوف حول دور بلاده في استمالة دول عدم الانحياز. وكان وزير الخارجية الأميركي يومها فوستر دالس، قد كرر لازمةً مفادها: من ليس معنا... فهو ضدنا. وردّ عليه خروتشوف بعبارة إيجابية تقول: من ليس ضدنا... فهو معنا. وهكذا نجحت موسكو في استمالة دول عدم الانحياز إلى جانبها.
ورأى كلوفيس من موقعه في الهند، كيف تنمو وتتطور تلك الكتلة بمؤازرة نهرو وتشجيع جوزف تيتو وحماسة جمال عبدالناصر وشعبية أحمد سوكارنو وكوامي نكروما.
المرحلة الثانية في حياة كلوفيس مقصود لم تكن مشرقة وواعدة كالمرحلة الأولى التي أمضاها في الهند. خصوصاً أنها جاءت بخيبات أمل كبرى نتيجة انهيار مشروع «دول عدم الانحياز» وهزيمة بطله جمال عبدالناصر سنة 1967. لكنه وجد في تطمينات محمد حسنين هيكل بعض العزاء المشترك، خصوصاً أنه قدّم له فرصة في صحيفة «الأهرام» للدفاع عن النكسة، وتداعياتها السياسية والعقائدية.
بيد أن هذا العزاء الموقت لم يعوّض عن الانهيار الإقليمي الذي أصاب حركة القوميين العرب في الصميم، وأوجد لدى كلوفيس حالاً من الضياع والتشتُّت الذهني.
وللتدليل على الأثر البالغ الذي أصاب المفكر والديبلوماسي والمنظّر كلوفيس، أخبرني محمد حسنين هيكل الطرفة التالية. قال إنه كان متجهاً إلى المطار للقيام برحلة إلى اليمن بمشاركة كبار القادة العسكريين، عندما أبصر كلوفيس قرب مبنى «الأهرام» وهو يتأبط رزمة من الصحف والمجلات. وترجّل من السيارة ليقنعه بضرورة مرافقته في رحلة داخلية فوق الأراضي المصرية، ربما تخفف من الإرهاق الذي يعانيه، أي أنه لم يخبره بأن الطائرة متوجهة الى اليمن لئلا يستصعب الرحلة.
وبعد الرجوع الى القاهرة، رأى هيكل أن كلوفيس شارد الذهن، مطأطئ الرأس كأن أمراً عصياً يقلق باله. وبعد مرور ساعتين تقريباً، دخل كلوفيس مكتب هيكل ليسأله باستغراب: لماذا ترتدي القوات المصرية المسلّحة في الصعيد، ثياباً مختلفة الألوان عن قوات القاهرة؟!
وكثيراً ما كان هيكل يردد هذه الحكاية أمام أصدقاء كلوفيس وبحضوره أيضاً، للتدليل على أن همومه كانت مختلفة، وأن مسؤولياته كانت منصبّة على معالجة القضايا التي يعتبرها مصيرية. لذلك اتهمه بعضهم بإهمال المسائل العائلية والشخصية.
في العام 1956، التحق كلوفيس بجامعة أوكسفورد للتخصص في القضايا المتعلقة بالدفاع عن شرعة حقوق الإنسان. واختار لأطروحته جانباً مثيراً كان من الصعب إيجاد مستندات داعمة له في مصادر المؤلفات. وبما أن الأستاذ المشرف على الأطروحة كان يطالبه بتعزيز الآراء بإسنادات علمية، فقد قرر كلوفيس تزويد جريدة «النهار» بمقال أسبوعي راح يستخدمه وثيقة لدعم آرائه السياسية والفكرية في الأطروحة الجامعية.
وقد ساعدته الخلاصات في الفصل المتعلق بحرب السويس في 1956، على إنهاء سنته الجامعية بأقصر مدة ممكنة، وفق شهادة وليد الخالدي والياس سابا. كما عبّدت له المقالات التي نشرها في «النهار» منتصف الخمسينات طريق العبور إلى صداقة غسان تويني الذي ضمه إلى أسرة «النهار العربي والدولي».
في العام 1974 تزوج كلوفيس للمرة الثانية من هالة مالك سلام التي عوّضت بحضورها الآسر عن سنوات عزوبيته الطويلة. ورغم انفجار الحرب اللبنانية عقب زواجهما بسنة واحدة، إلا أن هذا الثنائي المناضل وجد متعة خاصة في ترويض الحركات المعادية لاسترداد ما فُقد من سيادة وطنية في حرب حزيران (يونيو) 1967.
ويستدل من مراجعة الحقبة التي جمعتهما تحت سقف واحد في واشنطن، أن 28 سنة كانت كافية لترسيخ تعاونهما، وتوسيع عملهما المنظم في إطار المجالس التي أشرفت هالة على تطويرها ورعايتها في الولايات المتحدة. لذلك استحقّت مقابل إنجازاتها الإنسانية أرفع الأوسمة في بلاد المهجر.
وعندما توفيت هالة في نيسان (أبريل) 2002، شعر كلوفيس بجسامة الفراغ الذي أحدثه غيابها في حياته الاجتماعية والديبلوماسية. ووجد في عملية الانخراط في الحقل الأكاديمي العزاء الكبير عبر المركز الذي أنشأه في الجامعة الأميركية في واشنطن. كما وجد في كتابة مذكراته «من زوايا الذاكرة»، متنفساً للضغوط التي حملها في صدره طوال نصف قرن، وهو يرى الانقسام والتشرذم يعملان في جسد القومية العربية، نهشاً وتنكيلاً.
عندما نعته وزارة الخارجية اللبنانية، أطلقت عليه لقب «خطيب القضية العربية»، ووصفته ريما خلف، الأمينة التنفيذية لـ «إسكوا»، بأنه «كان أعلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان العربي».
وأذكر جيداً أن صديقه سفير اليمن السابق في واشنطن وأحد رؤساء وزراء الثورة محسن العيني، قدّمه في أمسية ديبلوماسية بكيس رمل التدريب على الملاكمة. ولما استوضحتُه عن رمزية هذا الوصف، قال لي إن جميع السفراء العرب في الأمم المتحدة وواشنطن يحتمون وراء كلوفيس الذي أثخنته الجراح حتى الموت...
ألف رحمة الله على جهوده، وعلى القومية العربية التي ماتت مع آخر رموزها.
التعليقات