&

إنتهينا عزيزي القارئ في الجزء الأول من المقال بمناقشة بعض الأفكار من كتاب جديد بعنوان، المدارس الإبداعية، والذي كتبه أحد عظماء التعليم الغربي، وهو الأستاذ كن روبنسون، حيث ناقشنا كيف يتحير الإنسان اليوم في التفكير بتأثير دخول الذكاء الآلي بشكل واسع في القطاعات الصناعية والخدمية المستقبلية، وطرحنا الأسئلة التالية: هل فعلا ستنخفض نسب العمالة الصناعية إلى 47% مما هي عليه اليوم، كما يتوقع بعض علماء الاجتماع؟ ومعنى ذلك بأن 47% من القوى العاملة اليوم ستفقد عملها خلال العقدين القادمين، ولكن هل ستسمح الدول والحكومات بذلك، أم ستساعد تكنولوجية الذكاء الآلي لخلق فرص جديدة لقوى العمالة البشرية؟ &وهل ستعرف نوعية الوظائف من جديد، ولينتهي زمن الوظائف التقليدية؟ فمثلا، هل سنحتاج في المستقبل للسواق وسيارات الأجرة والمترجمين؟ وهل ستقل الحاجة للممرضات حينما سيقوم الذكاء الآلي بخدمات تمريضية كثيرة في المستشفيات، ولربما في منازل المسنين وبمساعدة الممرضات؟ وهل ستقل الحاجة للأطباء بحيث أن يقوم الذكاء الآلي بالكثير من المهمات التي يقوم بها الطبيب اليوم؟ وهل سيلعب الذكاء الآلي دورا أكبر في العمليات الجراحية؟ وهل ستتحول أجواء العمل لبيئة تحدي جديدة مثيرة تجمع بين البشر وذكاء الإنسان الآلي؟ وهل ستترافق بتغيرات سياسية وجويوبولتيكية وقانونية؟ &

لقد بدأت تعي الكثير من الدول بتخلف التعليم التقليدي، مع بدأ منافسة الذكاء الآلي للقوى البشرية العاملة. فلو راجعنا امتحانات التقييم الدولية (بي. أي. إس. أيه.) والتي سجلت شنغهاي المرتبة الأولى فيها، وتابعنا تعليق مسئول التعليم في شنغهاي على هذا الإنجاز العالمي الكبير سنصاب بالدهشة. فبدل أن يفتخر هذا المسئول بما حققه نظام التعليم التقليدي الحكومي في شنغهاي، حينما قدم له التهنئة أحد خبراء التعليم لحصول مدينته على المرتبة الأولى في امتحانات التقييم الدولية، وبعد أن قرروا مسئولو التعليم في مدينة شنغهاي بعدم المشاركة في هذا الإمتحان مستقبلا، فقد قال: "لا تحتاج شنغهاي لكي تسمى بالأولي في ترتيبها في هذا الإمتحان، بل ما تحتاجه هو مدارس تتبع اساسيات تعليم صحيحة، تحترم اساسيات التطورات الجسمية والعقلية والنفسيه للطالب، وتضع قواعد راسخة لتطوير شخصية المواطن مدى حياته."&

تصور عزيزي القارئ نحن في دولنا العربية نتنافس في إعلامنا لنسجل الريادة في التعليم على الدول العربية أو الشرق الأوسطية أو الأفريقية أو الخليجية، بينما في شنغهاي يريدون التخلص من هذا اللقب الذي في رأيهم لا يشبع ولا يغني من جوع. كما علق أحد مسئولي التعليم في فنلندا على المخرج الأمريكي ميكل مور، في فلمه الوثائقي الجديد، اين سيكون غزونا المقبل؟ حينما أفتخر مايكل أمامه بوجود جامعة هارفرد في الولايات المتحدة، فقال: "أنتم في الولايات المتحدة لديكم جامعة هارفرد واحدة، بينما نحن في فنلندا جميع مدارسنا وجامعاتنا هي هارفرد، وليس فيها أي تباين في التعليم، فجميع مؤسساتنا التعليمية في مستوى واحد، فبسهولة ينتقل الطالب من مؤسسة تعليمية لأخرى وبدون أي انقطاع في العملية التعليمية، وبدون رسوم دراسية مرهقة." كما علق بعض الطلبة على موضوع الواجبات المدرسية فقالوا: "عادة لا نضيع أكثر من خمسة عشر دقيقة يوميا على الواجبات المدرسية، لأنه يعتمد أساس تعليمنا على التعاون والتناغم الاجتماعي، لمعالجة المعضلات العلمية والاجتماعية والرياضية التي نواجهها في حياتنا. فنحن نعمل كفريق متناغم في المدرسة لنتعلم كيف نعالج المعضلات، ونبدع في إكتشاف نظريات وتكنولوجيات لحلها، أم المعلومة فهي متوفرة على جهاز تلفوننا المتحرك، فلا نحتاج لملعقة (بروفيسور) تلقننا المعلومة، وفي نفس الوقت نحن لا نجتر المعلومة، لكي نستفرغها في الإمتحانات." &ويبقى السؤال: ما هي أساسيات التعليم الصحيحة؟ وكيف يمكن أن يحترم هذا النوع من التعليم أساسيات التطورات الجسمية والعقلية والنفسية للطالب، ويضع قواعد راسخة لتطوير شخصية المواطن مدى حياته؟ &وهل لذي الأطفال غريزة قدرة عفوية للتعلم؟

يعرض كتاب البروفيسور كن روبنسون عن التعليم الإبداعي، ابحاث الأستاذ الهندي الأصل، سوجاتا ميترا، والتي تتعلق بمدى قدرة الاطفال التعلم بعفوية، من خلال أبحاثه في المناطق الفقيرة جدا من مدينة نيودلهي. فقد قام هذا الباحث الهندي بوضع كومبيوتر في الجدار في حارة فقيرة جدا بمدينة نيودلهي، ووصله بالانترنت، وراقب بدقة كيف ستكون ردة فعل الاطفال الفقراء في هذه الحارة، وهم لم يشاهدوا كومبيوتر قط في حياتهم، ولا يعرفون أي شيء عن اللغة الأنجليزية، التي يستخدمها الكومبيوتر المذكور. فيعلق الأستاذ سوجاتا ميترا فيقول: "العجيب بأن هؤلاء الأطفال تعلموا بسرعة فائقة ولوحدهم طريقة استخدام الكومبيوتر، والدخول على شبكات الإنترنت، بل وعلموا زملائهم الأطفال، كما أستمتعوا بالالعاب الإلكترونية، بل وسجلوا من شبكات الإنترنت موسيقاهم المفضلة، كما تزلجوا على صفحات الانترنت بسهولة وبسرعة."&

فنلاحظ عزيزي القارئ بأن عقل الطفل مستعد للتعلم وبشكل عفوي طبيعي، إذا توفرت البيئة والوسائل السليمة للتعلم. ويبقى السؤال: هل فعلا يحتاج الطفل للتدريس التقليدي ومدرسيه في الألفية الثالثة؟ ويجيب على هذا السؤال سوجاتا ميترا فيقول:" هل فعلا يحتاج الطفل للمدرسة والمدرسين؟ أليس التعليم آلية حيوية تشبه الزراعة؟ ألا يعرف البستاني بأنه لا يجعل النبته تنمو؟ فهل يوصل البستاني الجذور بالنبته؟ ويلصق اوراقها بالصمغ؟ ويلون أزهارها؟ أم تنمو النبته بنفسها؟ بينما يهيء البستاني الجيد البيئة المناسبة لكي تنمو النبتة بشكل طبيعي جميل؟ وهنا يسأل: فهل سيكون وظيفة معلم المستقبل تهيئة البيئة المناسبة ليتعلم الطالب بكفاءة عالية؟ وما الفرق بين المدرس التقليدي والمدرس المبدع؟ ألا يدرس المدرس التقليدي الحقائق المطلقة، وبتوجهاته المحددة، وبنسق واحد، لجميع طلاب الفصل، بينما يعتمد التعليم الإبداعي على التعلم بالاكتشاف والاختراع والحوار والمناقشة والتحليل، للتعامل مع المعضلات المعقدة، من خلال التعبير الشخصي لكل فرد، في مجموعات صغيرة؟

فقد بينت الأبحاث العلمية بأنه يولد الطفل البشري بعقل يحتوي على مئات المليارات من الخلايا العصبية الكاملة، أو الكومبيوترات الحيوية الفائقة الدقة والقوة، ولكن تتم تواصل معظم أسلاك هذه الكومبيوترات المعقدة بعد الولادة، ويعتمد دقة تواصل هذه الأسلاك العصبية على مستوى الخبرات اللحظية التي يكتسبها الطفل، ويعتقد العلماء بأنه في كل ثانية من عمر الطفل الوليد تتم تكون ألف وصلة بين الخلايا العصبية وباقي أعضاء الجسم، وتعتمد دقة ومتانة هذه الإتصالات على مستوى الخبرات اللحظية التي يتعلمها الطفل.&

وقد كتبت البروفيسوره لورا تيسون، استاذة بجامعة كاليفورنيا بركلي، مقال في الصحافة الأمريكية تقول فيه: "السنوات الأولى أساسية في نمو العقل البشري، حيث يتم تواصل الاسلاك العصبية بمعدل ألف وصلة كل ثانية، خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل. فعدد الكلمات التي يسمعها الطفل لها تأثير عظيم على تطور قدراته العقلية المستقبلية. ولكن هناك تباين كبير، بين ما يسمعه الطفل في عائلته المهنية، عن الطفل الآخر من عائلة الطبقة العاملة، أي أختلاف يقدر بحوالي ثلاثة ملايين كلمة في السنة، وبحوالي متوسط 12 كتبا لطفل الطبقة المهنية، بينما طفل الطبقة العاملة ليس هناك حتى كتاب واحد له. &ومع أن ما يتعلمه الطفل في البيت مهم جدا، ولكن يحتاج أيضا للمدرسة، حيث تبين الأبحاث بأن الأطفال الذي يدرسون في الحضانه، خلال الخمس سنوات قبل دخول المدرسة الإبتدائية، ولو حتى لو سنة واحدة، يتفوقون بثلاثين نقطة في امتحانات القراءة، على الأطفال الذين لم يلتحقوا بمدارس الحضانة، بل وينعكس ذلك على الدخل المستقبلي حيث يزداد دخلهم بنسبة 1.3% وحتى 3.5% سنويا.&

وقد بدأت تهتم بريطانيا بتدريس الطفل خلال الخمس سنوات الأولى قبل دخول المدرسة النظامية في السادسة من العمر، حيث تشجع العائلات المتمكنة في إدخال أطفالهم إلى مدارس الحضانة، بل تدعم الدولة تدريس الحضانة للعائلة التي دخلها أقل من 24 ألف دولار سنويا، للاطفال في السنة الثانية 15 ساعة تدريس إسبوعيا، ولمدة 38 أسبوع سنويا. وطبعا يساعد ذلك الأم لكي تدرس أو تعمل. وقد أهتم القطاع الخاص أيضا بهذا الموضوع ليوفر لأطفال موظفيه التعليم المبكر، فمثلا في مدينة نيويورك هناك 65 ألف طفل في الحضانه، بكلفة سنوية مقدراها 300 مليون دولار.

وطبعا سيحتاج تعليم الحضانة المبكر إلى مدارس حضانة متخصصة، وذا كفاءة عالية، لأن السنوات الخمس الإولى مهمة جدا في تكون الشبكات العصبية للجهاز العقلي المسئول عن تطوير طريقة تفكير الطفل. وقد برزت عدة خبرات عالمية في التعليم المبكر. فمثلا طريقة المعلمة والطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري، التي تستخدم طريقة تطورية، بحيث أن يكون جميع أساتذه الحضانة لديهم شهادة جامعية في طريقة تعليم مونتيسوري، والتي تؤكد على أهمية الطبيعة والإبداع والتوجيه الهادئ في المدرسة، والتي تهدف لأن يطور كل طفل قدراته الحسية والشخصية والمهارات الحياتية العملية والقدرات الأكاديمية الخاصة به كفرد. كما أن هناك تعليم راداولف، الذي طوره الكاتب النمساوي، راداولف ستينر، والذي يهتم بتغذية روح الطفل وجسمه مع رغباته. كما أن تعليم ريجيو إيميليا، الذي أسس في إيطاليا في أربعينات القرن الماضي، والتي تعتمده الكثير من المدارس اليوم في الولايات المتحدة، وهي طريقة تعليم تشجع على البحث، وتركز على أهمية المجتمع، ومهرات التعبير الشخصي، فيتعلم الطفل من خلال رغبته وسيطرته، ليعكس الطفل أفكاره ورغباته من خلال الفن والنشاطات العلمية والاجتماعية الأخرى." &

تلاحظ عزيزي القارئ من كل هذه التطورات في التعليم المستقبلي، ما مدى التحديات التي يعاني منها التعليم في منطقة الشرق الأوسط، والذي لم ينجح في وقاية بعض شبابنا من طاعون التطرف القاعدي والداعشي، بل إنضم بعضهم كوكلاء لأنظمة ثيوقراطية طائفية؟ فكيف سنبدأ تعليم وتدريب ينقذ عقول شبابنا واطفالنا من غزو هذا الطاعون المعدي جدا؟

ولنا لقاء.

&

سفير مملكة البحرين في اليابان