&سوريا، وطن زاخر بالثقافات واللغات والقوميات والأثنيات. الحضارة السورية العريقة، أغنى وأعظم من أن تنسب لقوم أو لشعب أو لدين معين. الغزاة العرب المسلمين، اختزالهم الحضارة السورية بـ"العروبة والاسلام" وفرض "العروبة" كهوية وانتماء على جميع السورين، شكل بداية سقوط "الدولة السورية" في مستنقع الطائفية السياسية والعصبيات الأخرى. احتلال العثمانيين لسوريا والمنطقة وانتهاجهم حكماً طائفياً عنصرياً، عزز النزعات الطائفية والعرقية والمذهبية لدى جميع شعوب وأقوام المنطقة. ففي الوقت الذي عانى المسيحيون والمسلمون من غير السنة، كثيراً من وطأة الاحتلال العثماني، المسلمون السنة، بسبب الرابطة السنية المشتركة مع العثمانيين وتمتعهم ببعض الامتيازات الدينية والسياسية والاقتصادية، لم يشعروا بوطأة الاحتلال العثماني، الذي دام اربعة قرون باسم "دولة الخلافة الاسلامية" ولم يتحركوا ضده، إلا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ووصول الجيوش الأوربية للمنطقة وتحريضها للزعماء العرب ضد العثمانيين لأجل تحرير الشعوب العربية من الاحتلال العثماني وإقامات كيانات عربية مستقلة. حتى أن كتب التاريخ المقررة في المدارس السورية(هي من وضع السنة) لم تتحدث عن العثمانيين كمحتلين لسوريا والمنطقة، وإنما كمسلمين فاتحين لها. الفرنسيون بدورهم انتهجوا سياسية (فرق تسد) في حكمهم لسوريا. في إطار هذه السياسية، شجعوا "النزعة الانفصالية" لدى الأقليات. شكلوا ما عرف باسم" القوات الخاصة للشرق الأدنى" من أبناء الأقليات، من العلويين والدروز والأكراد والشراكسة، استخدمت في حفظ النظام وقمع احتجاجات العرب السنة، الأمر الذي زاد من الكراهية والأحقاد الطائفية والمذهبية والعرقية بين الأقوام السورية.

استقلت سوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946، و أقوامها مثقلة بالنزعات والعصبيات الطائفية والعرقية والمذهبية والقبلية والجهوية. ساهمت سياسات التمييز العنصري والنهج الطائفي للحكومات العربية الاسلامية، التي تعاقبت على حكم سوريا، في تكريس مختلف العصبيات داخل المجتمع السوري وتسيس الظاهرة الطائفية، حتى غدت المحرك الأساسي للحياة السياسية في البلاد. فرغم الشعارات والمبادئ الوطنية والقومية والأممية، التي عجت بها الساحة السورية، بقيت الأواصر والمعاير(الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية) جزءاً اساسياً من بنية السلطة السياسية والعسكرية والاقتصادية. والأحزاب باتت تعكس مصالح جماعات بعينها. استغل السياسيون العواطف والمشاعر الدينية والطائفية والاقليمية و العلاقات الاجتماعية التقليدية في استقطاب أنصارهم لتعزيز نفوذهم وسلطتهم داخل أحزابهم للوصول الى السلطة و الاحتفاظ بها. حتى داخل النظام البعثي الاشتراكي النصف العلماني الحاكم لعبت "الطائفية " دوراً محورياً واساسياً في الصراع على السلطة، خاصة بين "العلوية السياسية" و"السنية السياسية". في 23 شباط 1966 قاد (صلاح جديد - علوي) انقلاب عسكري على الرئيس السني (أمين الحافظ) وعلى القيادة القومية المقادة سنياً /مسيحياً (ميشيل عفلق وصلاح البيطار). بعد تصفية القيادات السنية الحاكمة، بدأ الصراع داخل البعث بين القيادات العلوية ذاتها. بين جماعة صلاح جديد وجماعة حافظ الأسد. وقد ُحسم الصراع لصالح الأسد بانقلابه العسكري 1970 واعتقال صلاح جديد والرئيس نورالدين الاتاسي وزجهما في السجن. كما هو معلوم تم توريث السلطة لبشار الأسد بعد وفاة أبيه حافظ 2000، رغم وجود نائب للرئيس (عبد الحليم خدام) وهو سني، اختار المنفى بعد توريث السلطة لبشار. الذين رفضوا استغلال الدين والطائفة والعرق والتزموا المبادئ الوطنية والديمقراطية وحرصوا على مصالح الشعب السوري، حُصروا من قبل العنصريين والطائفيين وتمت تصفيتهم السياسية بطردهم من أحزابهم أو أنهم اعتزلوا السياسة مكرهين.جاء في (قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري ص 415 ). تذمر أحد قادة (الحزب الشيوعي السوري) من فشل تنظيم حزبه في الحصول على تأييد مهم بين الأغلبية العربية بسبب "الشوفينية القومية" لأعضاء الحزب الأكراد. جدير بالذكر، جناحي الحزب الشيوعي السوري في محافظة الحسكة( خالد بكداش – يوسف فيصل) ُفرغا من العنصر العربي والاشوري السرياني والأرمني وباتا مجرد حزبين كرديين. في ذات السياق، قيل عن ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث العربي): " لو كان ميشيل عفلق عربياً مسلماً سنياً، لانتشر حزبه في الأوساط العربية الاسلامية السنية كانتشار النار في الهشيم ". يبدو أن عفلق أدرك متأخراً حساسية "العقدة الطائفية" كعقبة في طريق مشروعه السياسي. فرغم أنه كان من رمز العلمانية، اعتنق الاسلام. لكن اسلام عفلق لم يفيد في تغير نظرة الاسلام السياسي والقوى العربية السنية التقليدية لحزب البعث العربي الاشتراكي، كـ"تكتل أقلياتي" يرمي الى تهميش العرب السنة، وهم غالبية السكان، وإزاحتهم عن السلطة. هواجس العرب السنة دفعتهم للخروج في تظاهرات واحتجاجات في حماه وحمص على ما سموه بـ" الدستور الالحادي" الذي خلا من الاشارة الى دين الرئيس (الاسلام).وهو الدستور الذي وضعه حافظ الأسد (العلوي) بعد انقلابه على السلطة 1970. رغم تراجع الاسد عن خطوته المتقدمة هذه، تحت الضغط السني، حظي الأسد بمزيد من الدعم والتأييد من قبل ابناء الأقليات والأقوام غير السنية، المتخوفة من أن يقيم السنة حكماً اسلاميا متشدداً إذا ما حكموا سوريا. وقد وصفت جماعة الإخوان المسلمين السوريين، التدخل العسكري لحافظ الأسد في الحرب اللبنانية 1976، الذي جاء في البداية لصالح الموارنة المسيحين، بـ "الخيانة للعروبة والاسلام". تمرد حركة "الإخوان المسلمين" ولجوء الإخوان الى العنف والارهاب في ثمانينات القرن الماضي لإسقاط حكم حافظ الأسد، كان تمرداً طائفياً سنياً على ما وصفوه بـ"حكم الأقلية العلوية". الطائفية السياسية، مع الأجندات المذهبية والعرقية للقوى الفاعلة على الأرض، هي المسؤولية بالدرجة الأولى عن انحراف حركة الاحتجاجات الشعبية العفوية ضد "الدكتاتورية الأسدية"، التي انطلقت في آذار 2011،من "ثورة وطنية شعبية" الى "حرب داخلية وصراع مسلح على السلطة ". الثورة السورية الموءودة،بمعول الطائفية والعرقية والمذهبية، كشفت مدى تشوه وتلوث "المجتمع السياسي" السوري.&

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات.

[email protected]