رجال الدين غالبا ما يكونون بدائل الشيعية السياسية في العقود الاربعة الأخيرة، وتحديداً بعد أن تراجع زخم الحزب الشيوعي. أما السنة فبدائلهم السياسية عادة ما تكون عسكرية، حتى صدام الذي لم يكن ضابطاً أعطي رتبة عسكرية ليحظى بالمشروعية.

وذووا التوجهات "غير الدينية" من الشيعة انقسموا ايضا بين ثلاثة تصورات: قسم لا يؤمن بأي حراك انقلابي، حتى لو آمن بضرورة التغيير الجذري، وقسم بحث عن البديل في رجل الدين ايضاً، بينما حلم آخرون بـالمستبد "العادل"، خصوصا بعد صعود السيسي الذي أطاح بحركة الأخوان.

هنا يظهر خالد العبيدي، جنرال متقاعد، جاءت به صفقة حكومة العبادي الى منصب وزير الدفاع، ترضية لأسرة النجيفي التي خسرت نفوذها بعد أن خسرت الموصل ورئاسة مجلس النواب. وبرز دور الرجل بأن وزارته نجحت بتحرير الفلوجة والرمادي والمشاركة في تحرير تكريت.

وسط هذا الوضع، جاء استجواب وزير الدفاع داخل مجلس النواب، بعض المعلومات تتحدث عن هذه العملية كانت معدة بشكل جيد لإقالة العبيدي، وانها تمهد لتضييق الخناق على العبادي في الطريق نحو اقالته، وهو مشروع الخصوم، عدا الصدريين وكتلة التغيير، الذي طرح بعد اقتحام المتظاهرين لمجلس النواب. الرد جاء في الجلسة، الاستجواب سقط حين اتهم الوزير المستجوَب رئيس مجلس النواب السني وعددا من النواب، اغلبهم من السنة، بالابتزاز وطلب العمولات والرشوة.

فهل كانت هذه الخطوة مجرد خطوة دفاعية ضد محاولات اسقاطه، أما انها خطوة هجومية استغلت فرصة الاستجواب، وحالة الغضب التي تسود الشارع ضد مجلس النواب؟

قال الوزير جواباً على هكذا سؤال ضمني، بأنه لا يفكر بأي دور سياسي. لكن الأداء الاعلامي للرجل خلال الشهور الماضية، وفاعلية صفحته على الفيسبوك، وتركيزه على الصور في مهام عسكرية وغير عسكرية، آخرها اعلانه على في الفيسبوك تبنيه ليتيم، تشي بأن هناك محاولة لتسويق النفس بما هو أبعد من الحرب ضد داعش. فعادة من لا

يبحث عن مستقبل "غير عسكري" لا يهتم بهذه الجوانب ولا يهتم حتى بالاداء الاعلامي الا بحدود ما تمليه عليه واجباته العسكرية.

وزيارته بعد حادثة جلسة الاستجواب، الى ضريحي الامامين ابو حنيفة وموسى الكاظم، تفيد بأن خلف الدور العسكري دوراً آخر. البحث عن قواعد شعبية، منسجم جدا مع هذه الزيارة. عدا عن هذا، ان استخدامه لبيان منسوب للاخوان المسلمين في مصر والعراق، والذي تضمن تهديد العبيدي واسرته، مثير للاسئلة. لأن الحركة الأقدم بين حركات الاسلام السياسي، لا تلجأ الى بيانات علنية تتحدث فيها عن "الارتداد" بهذه الطريقة الفجة. الاخوان المسلمون حركة غاية بالدهاء والمكر، لا تقوم باصدار بيانات غبية تخدم فيها خصومها.

لذلك من الصعب تصديق مقولة عدم البحث عن دور سياسي، بل يمكن أن نفهمها بطريقة عكسية. والغريب ان الوزير ركز في "مرافعته" النيابية على اسماء سنية أكثر من الشيعية، وحتى الشيعية وردت بطريقة لا تثبت شيئا مهماً. فهل ان الشيعة لم يبتزوا الوزير واقتصر الابتزاز على السنة؟!

بل أكثر، ان الفضيحة تركزت على اسمين، هما الزعيم السني الاول في الوقت الراهن، سليم الجبوري مع اخوته، ومحمد الكربولي الذي يمتلك نفوذاً كبيرا في الاوساط العراقية في الاردن. استخدام هذين الاسمين بشكل كبير رغم الحديث عن وجود اسماء أخرى صمت عنها الوزير، ينم عن ان هناك تركيزاً ذا هدف أبعد من فضح الفساد، خصوصا وان الاسمين ليسا من يقف وراء الاستجواب. الاستجواب جاء تحديدا من داخل دولة القانون "عالية نصيف" وغير مستبعد ان الهدف كان التمهيد لاسقاط حكومة العبادي، باسقاط أكثر وزرائها قرباً منه.

رد العبيدي لا يبدو دفاعياً فقط، خصوصاً مع فرضية انه يمتلك طموحاً سياسيا. الرد يفي بتوفير الارضية الملائمة لطرح اسمه سنياً، في ظل الشتات الذي عانت منه المحافظات السنية بعد احتلال داعش لها. اما الشيعة فيبدو أن المطلوب كسب ثقتهم لضمان شراكة مستقبلية. والمستقبل هنا مرحلة ما بعد داعش التي ستكون ناجزة بشكل كامل في الانتخابات النيابية عام 2018.

هو طموح مشروع لأي شخص، بالطبع مع شرط ان تكون الاتهامات الواردة حقيقية وليست تلفيقا، وهو امر لا يستبعده كثير من المراقبين. لكن الخطورة تكمن في أن هذا الطموح سيخلق نوعاً جديداً من الصراع قد يخضع القضاء فيه مجددا الى معركة&الساسة، وقد يؤدي الى استمرار الحرب. فرئيس مجلس النواب ومحمد الكربولي لن يقفا مكتوفي الايدي في المعركة، خصوصا وان الوزير لم يقدم ادلة كافية، ما يجعل ملاحقته قضائياً امراً ممكنا، وهو ما تسرب، بأن دعوى قضائية قدمها الجبوري ناجزة الان.

ان مرحلة الصراع داخل الطوائف بدأ في كردستان بعد معركة منع تمديد ولاية البرزاني، وامتد الى المجال الشيعي بعد التظاهرات وابعاد العبادي لسلفه المالكي عن منصب نائب رئيس الجمهورية ثم دخول التيار الصدري على خط التظاهر بقوة، والان دخل الساحة السنية، وكما اعتدنا، ان النزاعات داخل هذه الساحة هي الأكثر عنفاً، وهذا هو المثير للقلق. وفي كل هذه الصراعات، بات الفساد هو المدخل للتغيير، بعد أن كانت الحرب ضد الارهاب عقبة أمامه!

في ظل هذا، لا يتوقع اي انقلاب عسكري. فمن غير المرجح أن الامريكيين وبقية القوى النافذة في العراق تدعم هكذا خطوة، لكن المتوقع أن تكون الصراعات هي الارض الخصبة لتحقيق نمط جديد من التوافقات، بعد أن بان فشلت صياغاتها السابقة. لذلك ان الحديث عن سيسي في العراق خرافة، الرجل محدود القدرات، والعراق اساسا مقسوم طائفيا، وليس بإمكان أحد ان يكون بديلاً لكل هذا الشتات والسلاح والدويلات الأقوى من الجيش والارادات. العبيدي يحقق خطوة صناعة منافس قوي وشرس محمي مع رئيسه العبادي أمريكيا، ويبدو أن هذه الحماية ذهبت أبعد من الحرب ضد داعش، الى تحقيق نقاط في الصراع السياسي الدائر.