&
إشكالية القوة والموارد تعد إحدى معضلات التخطيط التنموي في العالم، فالقوة مرهونة بالموارد، ولكن الأخيرة لا تثمر من دون تخطيط جيد يشمل القوة أيضاً، باعتبار أن التنمية والمكتسبات الوطنية للدول تحتاج دائماً إلى قوة تحميها، ولكن ما يعرف بحدود القوة يبقى دائما هو الفيصل الفارق بين عبقرية التخطيط والقيادة وفشلهما، لذا فإننا في دولة الامارات العربية المتحدة ندين بالفضل في حسن توظيف الموارد للقيادة الرشيدة، التي وضعت الانسان منذ بداية قيام الدولة هدفاً استراتيجياً للتخطيط، وحيث توجه الموارد وتوضع الخطط.
وفي ضوء هذه الإشكالية، طالعت مؤخراً تقريرً بثته شبكة "بي بي سي" حول الاختلافات بين نموذجي الكوريتين (الشمالية والجنوبية)، ورغم إدراكي للكثير من هذه الفروقات والأسباب التاريخية والسياسية التي تقف وراء الحالة الكورية الراهنة في الشمال، فإن وضع المؤشرات في مقابل بعضها البعض قد لفت انتباهي إلى أمور عدة، أولها مسألة توظيف الموارد الوطنية وتوجيهها، باعتباره ، كما أشرت، الخيار الاستراتيجي الأهم بالنسبة للدول في التاريخ الحديث، فالدول التي اتجهت إلى تبني استراتيجية قائمة على تجييش مواردها وتوجيهها بالكامل إلى بناء قدرات عسكرية نووية وصاروخية لم تحقق شيئاً لشعوبها، وهنا نماذج عدة على ذلك بخلاف كوريا الشمالية، فهناك نماذج إيران وميانمار وغيرهما.
إيران، على سبيل المثال، لها مكانة حيوية على خارطة الطاقة العالمية، فهي تمتلك نحو 10% من احتياطات النفط العالمية، كما تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم،& ولكن طموحات النظام في تحويل البلاد إلى قوة إقليمية توسعية تستطيع فرض أجندتها وأهدافها الأيديولوجية على الإقليم، الذي تعتبره مجالاً استراتيجياً حيوياً لها، قد أفرزت كوارث للشعب الإيراني، لأن هذا التوجه قد تحقق بطريقة أقرب للعشوائية، حيث تدفقت الموارد على خزائن الحرس الثوري وقادته، وتم التركيز على القوة العسكرية من دون وعي ببقية موارد القوة الشاملة لأي دولة، ومنها التنمية البشرية للكتلة السكانية الهائلة، التي تعاني نسبة فقر تبلغ نحو نصف السكان تقريباً!
فمسؤولي هذه الدولة النفطية الكبرى يحذرون من اندلاع ثورة فقر والحكومات الإيرانية المتعاقبة تتلاعب بنسب الفقر ومؤشراته، فهناك تقارير تشير إلى 40% من السكان البالغ عددهم نحو 80 مليون نسمة، أي أن نحو نصف سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر، بينما كانت حكومة الرئيس الأسبق ختمي تتباهي بأن نسبة الفقر في عهدها 20% فقط! وهناك مؤشرات كثيرة حديثة للفقر تدور في معظمها حول نسب اعلى من نصف السكان، ما يعكس الآثار الكارثية للمضي وراء أحلام الملالي في بناء قدرات تسليحية وبرامج نووية وتصدير الثورة وامتلاك النفوذ والتدخل في شؤون الدول الأخرى واهدار ثروات الشعب الإيراني في تدخلات خارجية ووكلاء أيديولوجيين.
هذا النموذج الرديء للحكم والقيادة لا يقتصر على إيران فهناك دول أخرى تعاني إشكالية غياب التخطيط وسوء توجيه الموارد، فكوريا الشمالية التي بدأت رحلة استقلالها في نهاية أربعينيات القرن العشرين، فهي الآن تقبع في ذيل المؤشرات التنموية، وطوابير السكان وهم ينتظرون قدوم باصات النقل الجماعي مشهد دال على الفشل في القيادة والإدارة وتوجيه الموارد.
المقارنات تكشف دائماً حجم التباينات الحاصلة والعلاقة بين المتغيرات المختلفة، ففي كوريا الشمالية هناك نحو 2ر3 مليون فقط يمتلكون هاتف محمول، مقابل نحو 9ر58 مليوناً في كوريا الجنوبية، وهذا المؤشر ليس مؤشر رفاه بل مؤشر اقتصادي مهم ودليل على القوة الشرائية والدخل الفردي وغير ذلك، فنسبة من يمتلكون هاتف محمول من السكان في الشمال لا تتجاوز 10% من السكان، البالغ عددهم نحو 25 مليون نسمة، بينما يفوق عدد اشتراكات الهاتف المحمول في كوريا الجنوبية عدد السكان أنفسهم! كما تشير الإحصاءات إلى أن كوريا الشمالية ليس لديها سوى 28 عنوان الكتروني مسجل عبر شبكة الانترنت!!
سوء التنمية لم يؤثر فقط في المؤشرات التنموية والاقتصادية بل في صحة السكان أيضاً، فأطوال الرجال في كوريا الشمالية أقصر من نظرائهم في الجنوب بنحو 3 ـ8 سنتيمتر، ويقول الخبراء أن هذا الاختلاف لا يمكن تفسيره في ضوء الاختلافات الجينية لأن شعبي الجنوب والشمال شعب واحد، ويعتقد العلماء أن شح الغذاء المزمن في كوريا الشمالية هو سبب قصر قامة المواطنين الكوريين الشماليين.
لنا أن نتصور ان شبكات الطرق المعبدة في كوريا الشمالية لا تتجاوز 3% من إجمالي أطوال شبكات الطرق، بينما تبلغ نسبة الطرق المعبدة في الشطر الجنوبي نحو 92%، كما تكشف المقارنات عن أن 11 فرد فقط من بين كل ألف كوري شمالي يمتلكون سيارة خاصة، بالتأكيد تنتمي إلى موديلات عتيقة!
المقارنة تكشف عن نتائج كارثية لدولتين بدأتا رحلة نموهما في الحقبة الزمنية نفسها، فالموارد متقاربة، واختلفت النتائج جراء فوارق التخطيط وتوظيف الموارد لمصلحة التنمية والبناء والإنتاج أو التحكم في هذه الموارد وتوجيهها إلى التسلح والبرامج النووية والصاروخية، وتكفي الإشارة إلى أن الانفاق العسكري الكوري الشمالي يلتهم نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على جيش يحتل رابع أضخم جيش في العالم بعدد يفوق المليون جندي بمائتي الف تقريباً!!
&